يثير دائما حديث الفيلسوف مراد وهبة التفكير، منبها لمناطق مجهولة، فينير الطريق أمام الناس. ولعل هذه إحدى مهام الفيلسوف المهموم بتغيير مجتمعه عبر اكتشاف تناقضه. جلست مع د. مراد وهبة جلسة طويلة حول التعليم العام، والتعليم الجامعى الذى دخل فى نفق مظلم من التعصب والفساد، بحيث لا يمكن تغييره إلا بثورة تصحيح. وتطرق حديثنا إلى ما هو مثار الآن حول الكتب الخارجية، ومدى أهميتها.. وكيف تكون عائقا أمام تطوير التعليم العام، وفى الوقت ذاته مساعدا للطلاب حسب ادعاء البعض؟! وفى محاولة لمعرفة الأزمة الحقيقية للكتاب المدرسى، ومن ثم الكتاب الخارجى، قال وهبة: «عندما منعت فى الثمانينيات الموافقة على الكتب الخارجية كان هدفى إلزام وزارة التربية والتعليم بتطوير الكتاب المدرسى، ولكن بشرط أن يتطور وفقا لمشروع الإبداع الذى بدأ قصته معى فى عام 1977». وسألته ما مشروع الإبداع؟ فأجاب وهبة أن المشروع يعتمد على تعريفى للإبداع، وهو: «قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم»، وفى هذا التعريف يوجد لدينا عنصران: الجدة والتغيير، ويوجد أيضا تناقض ضمنى، وهو أن تكوين العلاقات الجديدة هى أن تدخل فى تناقض مع علاقات قديمة، ولذلك صككت مصطلحين، «الوضع القائم»، و«الوضع القادم» أى وضع رؤية مستقبلية إذا فُرضت على الوضع القائم تغييره، أى أنك لا تستطيع أن تغير الوضع القائم إلا برؤية مستقبلية أقول عنها إنها وضع قادم. وزاد وهبة فى توصيل فكرته، قائلا: «ونشأة الحضارة الإنسانية دليل على ما أذهب إليه، فبدايتها لم يكن عصر الصيد عندما كان الإنسان متكيفا مع ما تقدمه له الطبيعة من حيوانات يصطادها ثم يذبحها ليأكلها، ومع ندرة الحيوانات بسبب أكلها مع العجز عن استئناسها حدثت «أزمة طعام»، فعالجها الإنسان بابتداع تكنيك زراعى يسمح بتحويل أرض غير زراعية إلى أرض زراعية، فنتج عن هذا الإبداع «فائض طعام»، ومن ثم، يمكن تعريف الإنسان بأنه «حيوان مبدع»، وبأن عقله مبدع بطبيعته، وإذا كان العقل كذلك، فيجب أن يكون التعليم كذلك، وبناء عليه، فقد أطلقت على مشروعى لإصلاح التعليم «مشروع الإبداع والتعليم العام» وتقدمت به إلى الأستاذ الدكتور فتحى سرور عندما كان وزيرا للتربية والتعليم، وكنت أنا أحد مستشاريه. وافق عليه كما وافق على عقد ندوة لإجراء حوار حول هذا المشروع فى 1988، وقد جاء فى كلمته الافتتاحية أنه «لابد من تطوير جذرى للمناهج فى التعليم ما قبل الجامعى والتعليم الجامعى.. وإذا كانت حركة التطوير قد بدأت، فإنها لابد من أن تسير سيرا يعتمد على محاور الإبداع، ولهذا، فإننا نتطلع إلى رؤية أهداف المناهج وقد احتل الإبداع فيها مكانا كبيرا». وهنا حدث الصدام بينك وبين صناع الكتب الخارجية القائمة على تلخيص الكتاب المدرسى؟ قال وهبة، موضحا أنه ذكر ذلك أيضا فى مقاله بصحيفة المصرى اليوم: كان تحقيق هذا المطلب يستلزم إلغاء الكتب الخارجية، التى تستند فى تأليفها إلى ثقافة الذاكرة، أى تستلزم إلغاء «شارع الفجالة»، المنتج لهذه الكتب، التى تدر أرباحا بملايين الجنيهات، وتواكبها الدروس الخصوصية المستندة إليها، وعند هذه المرحلة، ثار شارع الفجالة، ومع ثورته صدر نداء من وزير الداخلية «اتركوا الفجالة على حالها»، وبفضل هذا النداء، تم وأد مشروع الإبداع، وقلت معبرا عن هذا الوأد: «لدينا وزارتان للتربية والتعليم إحداهما وزارة فاعلة، ومقرها شارع الفجالة، والأخرى خاملة ومقرها بجوار (ضريح) سعد زغلول». وفى ظل انشغال الناس بالحصول على الكتب الخارجية التى زاد سعرها عن الحدود الأقصى طرح د. مراد وهبة أن هناك ثلاثية فاسدة فى التعليم.. فقلت له: ما هى هذه الثلاثية الفاسدة وكيف يتم التخلص منها؟ فأكد مراد وهبة أن هذه الثلاثية هى: التلقين والتذكر والذكاء. التلقين محصور فى توصيل «حقيقة» معينة من قبل المعلم إلى الطالب، يعقبه تدريب الطالب على «تذكر» هذه الحقيقة. والطالب الذى يجيد الاستجابة للتلقين ويتمكن من تذكر ما تلقنه يقال عنه إنه طالب «ذكى». ومن هنا جاءت اختبارات الذكاء، مقياسا لقدرة الطالب على التذكر. وقد أطلقت والكلام لوهبة على هذه الثلاثية مصطلح «ثقافة الذاكرة»، ومعناه أن هذه الثقافة تستند إلى مبدأ اليقين، وهو مبدأ يقوم على الإقرار ب«حقيقة» ما ثابتة، وغير قابلة للتغيير، وفى مجال التعليم يعنى مبدأ اليقين وما يلازمه من الحقيقة أن لكل سؤال جوابا واحدا لا غير وما عداه باطل، ومن ثم، تصبح وظيفة المعلم الاطمئنان إلى أن كل طالب على معرفة بالأجوبة اليقينية على الأسئلة المطروحة فى الامتحان، والاطمئنان كذلك على سلامة تخزين هذه الأجوبة فى الذاكرة، وبناء عليه، تؤلف الكتب المدرسية وتمارس أساليب التدريس وتوضع أسئلة الامتحانات لتدعيم ثقافة الذاكرة، والنتيجة تخريج طالب غير صالح للتعامل مع منتجات الثورة العلمية والتكنولوجية، لأن هذه الثورة تستند إلى ما أطلقت عليه مصطلح «ثقافة الإبداع» وهو على نقيض مصطلح «ثقافة الذاكرة» لأن الثورة تستلزم الجدة مع التغيير، ومن هنا جاء تعريفى للإبداع. وإذا توقف العقل عن الإبداع توقفت إنسانية الإنسان. بعد ذلك شدد وهبة على أن تاريخ العلم هو تاريخ «تطور» العلم، وتطور العلم لا يستقيم إلا بالكشف عن تناقض فى نظرية قائمة فنأتى بنظرية جديدة. هذا هو الإبداع فى العلم. ومثالا على ذلك، أن نيوتن فى القرن السابع عشر، وهو القرن الذى يعتبر بداية للعصر الحديث والخروج من العصور الوسطى. نيوتن أراد أن يحرر العلم من السلطة الدينية فاتجه عن البحث لقوانين تحرك الأحداث، ولكنه تصور أن هذه القوانين مطلقة؛ لأنها تبزغ من زمان مطلق ومكان مطلق. ومعنى ذلك أن نيوتن لم يستطع أن يتحرر تماما مما هو مطلق فى العلم. وتصور أن سبب سقوط الأجسام كان بفعل الجاذبية الأرضية، وفى القرن العشرين تسأل آينشتاين ما معنى القوة الجاذبة للأرض وهل الأرض بها قوة جاذبية؟ وقال آينشتاين إن هذه الفكرة أسطورية وخيالية، وهى آتية من تصور مطلق للعلم والبديل لمصطلح القوة الجاذبة هو مصطلح المجال ومعناه أن تفسر الأشياء بمجموعة من العوامل وليس بعامل واحد، وتفسير نيوتن سقوط الأجسام بفعل عامل واحد مرفوض علميا ولابد من البحث عن مجموعة عوامل. فقال آينشتاين بالمجال الجاذبى بدلا من القوة الجاذبة، ومن هنا تأتى النسبية. لدى آينشتاين تفكير نسبى ولدى نيوتن تفكير مطلق وهنا نقول إن العلم تطور من المطلق إلى النسبى وهذه فكرة جديدة، وأحدثت تغييرا فى الواقع. أقول هذا المثال لكى أدلل أنه لابد للكتاب المدرسى أن يكشف لتطور العلم، وفى هذا الإطار يتذوق الطالب العملية الإبداعية. وهنا يمتنع، حسب تأكيد مراد وهبة، تلخيصها فى كتاب خارجى؛ لأن الكتب المدرسية لا تكتفى بوضع القانون العلمى، وإنما تضعه فى سياقه التاريخى. وعندما يتذوق الطالب هذا التطور التاريخى لتطور العلم لا يكون فى حاجة إلى ما سميته بالثلاثية الفاسدة. لأنك فى هذا الوضع الجديد لا تلقن الطالب حقيقة معينة يحفظها فنطلق عليه أنه ذكى، والذكاء وهم إذ لا يوجد ما يسمى «ذكاء»، وإنما هو مرادف للعقل. وعن الذكاء ثار نقاش مهم فى 1989 بين وهبة والمفكر «هانس ايزنك» الذى كان يرى أننا فى حاجة إلى الأغبياء لإعداد القهوة. ألا ترى أن تحقيق هذا المشروع صعب تطبيقه فى المجتمع المصرى الذى تعود على الحفظ واعتبره أساس الذكاء والنجاح؟ قال مراد وهبة: «كنت مدرسا للسنة الثانية بقسم الفلسفة فاقترحت على الطلبة دراسة قضية معينة عند فيلسوف معين وطلبت من الطلاب الاطلاع على هذه القضية الفلسفية فى أى كتاب يقع تحت أيديهم ومن أجل المساعدة طلبت من أمين المكتبة أن يشترى نسخا يكون من شأنها المساعدة على فهم القضية المطلوب دراستها. واستجاب أمين المكتبة واشترى الكتب المطلوبة. وطلبت من أستاذ آخر أن يدخل من وقت لآخر ليحاور الطلاب فى القضية المطلوب دراستها وقلت للطلاب إن هذا الأستاذ سيضع معى الأسئلة واخترت أستاذ مخالفا لآرائى وكان الهدف منع الطلاب من الالتزام بآرائى، ومعنى ذلك أن الطالب سيكون حرا فى التعبير عن رأيه». وأكمل وهبة: «ووصلت هذه التجربة لمدة شهرين وبعدها وجدت استجابة من الطلاب واستمتاعا بالفلسفة، وقلت للطلاب إن امتحان نهاية العام فى المكتبة وسط الكتب التى قرأوها واشترطت عدم وجود ملاحظين؛ لأن فى هذه الحالة لا يوجد ثمة مبرر للغش. وذهبت إلى مجلس الكلية؛ لأنى كنت وقتها رئيسا لقسم الفلسفة وعرضت المشروع على أعضاء المجلس ورفض بالإجماع ما عدا العميد والذى قال: أتركوه يجرب؛ لأنها ليست السنة النهائية. ورفض أعضاء المجلس لسببين الأول قيل إن هذا المشروع ضد لائحة الامتحانات، والسبب الثانى قيل إنه غش جماعى، فخرجت من مجلس القسم إلى رئيس الجامعة وعرضت عليه الأمر وطلبت المشورة فقال مشروعك لا هو ضد اللائحة ولا هو غش جماعى فقلت له هل من الممكن أن تحضر فى مجلس الكلية القادم وتعرض رأيك، فأجاب رئيس الجامعة بالنفى قائلا: إن ذهابى إلى مجلس الكلية لمناقشة مشروعك يعد تدخلا فى شئون المجلس فماتت التجربة. وبعدها حدثت مقاومة شرسة من أساتذة كبار تجاه مشروع الإبداع، الأمر الذى انتهى عميد الكلية، فضلا عن إلغاء سيمنار الإبداع الذى كنت أعقده مع بعض الأساتذة لمشروع الإبداع». وقبل إلغاء سيمنار الإبداع كنت قد أخذت موافقة مسبقة من مجلس الكلية لتأسيس مركز الإبداع لتطوير التعليم، وأخذت موافقة بعد مناقشة استمرت لمدة ثلاثة شهور والمفارقة هنا أن مجلس الجامعة وافق على هذا المركز فى عام 1994 ورغم الموافقة لم يتم تأسيس هذا المركز. ومات مشروع الإبداع فى الوزارة. وأنهى مراد وهبة حديثه معى مؤكدا أنه على وزارة التربية والتعليم أن تختار بين ثقافة الذاكرة أو ثقافة الإبداع. إذا اختارت ثقافة الذاكرة ندخل بالضرورة إلى الثلاثية الفاسدة، ولكن إذا اختارت العكس، أى الإبداع، فمعنى ذلك الاستغناء عن الثلاثية الفاسدة، وعن شارع الفجالة، وتطوير الكتاب المدرسى الذى يستلزم عقد دورات تدريبية للذين يريدون التأليف لكى ندربهم على كيفية وضع كتاب فى إطار مشروع الإبداع، فضلا عن التقليل من درجة الامتحان أى أن تضعف من الدروس الخصوصية، ومن مكانة الفجالة وتضعف من هيئة الامتحان.