الوجود الإسرائيلى فى أفريقيا لم ولن يهدد أمن مصر القومى. ووجودها هناك يفهم فى إطار سعى كل دولة تحرص على تحقيق مصالحها. هذا الكلام ورد على لسان السفيرة منى عمر مساعدة وزير الخارجية المصرى للشئون الأفريقية فى ثنايا حوار نشرته لها صحيفة «الشروق» أمس (الثلاثاء 2/11) ورغم أن الحوار ملىء بما يستحق المراجعة والتصويب، إلا أن هذه العبارة بالذات ينبغى أن تستوقفنا وأن تنال حقها من التدقيق والتحقيق، يشجعنا على ذلك أن ردا عليها جاءنا بطريق غير مباشر من تل أبيب. إذ فى الأسبوع ذاته نشرت صحيفة «العربى» فى عدد الأحد 24/10 تفصيلا للكلمة التى ألقاها رئيس جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس يادين، فى حفل أقيم لتكريمه بعد انتهاء ولايته وتسليم مهام منصبه إلى خلفه الجنرال أخيف كوخفى. وفى المناسبة حرص الرجل على ان يعدد على مسامع الحاضرين بعضا من أهم انجازات جهاز «الموساد» خلال السنوات الأربع والنصف التى أمضاها رئيسا له. ومما قاله ان مسرح عمليات الجهاز شمل المنطقة المحيطة كلها، بصرف النظر عما إذا كانت تلك الدولة صديقة أو عدوة أو بين بين، وان مصر تقع فى القلب من أنشطته، ولا تزال تشكل أحد أهم مسارح عملياته، وقد خصها بالكلمات التالية: لقد تطور العمل فى مصر حسب الخطة المرسومة منذ عام 1979، فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية فى أكثر من موقع. ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة إلى أكثر من شطر. لتعميق حالة الاهتراء داخل بيئة ومجتمع والدولة المصرية. ولكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى البلد. وقد أستشهد فى ذلك «بنجاح» الجهود الإسرائيلية فى إذكاء الفتنة الطائفية بمصر، وتأجيج الصراع الحاصل فى دارفور. إذا لاحظت أن هذا الكلام ينصب على المرحلة التى أعقبت توقيع اتفاقية السلام على إسرائيل فى عام 1979 وانخراط مصر لاحقا فى مربع «الاعتدال» الذى هو فى حقيقة الأمر معسكر موالاة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، فلك أن نتصور طبيعة ومعالم الجهد الإسرائيلى المبذول فيما قبل ذلك، حين كانت مصر فى معسكر «الضد»، الذى رفرفت عليه اللاءات الشهيرة التى أطلقتها قمة الخرطوم. لا يفاجئنا كلام الجنرال عاموس يادين. ليس لانه لم يضف جديدا إلى معلوماتنا، ولكن لان غيره قال الكلام ذاته. وربما بتفصيل وصراحة أكثر. ذلك أن التقارير والدراسات الإسرائيلية لم تقصر فى متابعة هذا الملف. وتحت يدى نسخة من كتاب عميل الموساد السابق موشى فرجى حول «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان»، الذى أصدره فى عام 2003 مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط. ومؤلفه يقول صراحة إن إسرائيل لم تذهب إلى أفريقيا فى أواخر خمسينيات القرن الماضى إلا بهدف تطويق مصر وحصارها، فيما عرف آنذاك بسياسة «شد الأطراف» التى رسمت فى عهد ديفيد بن جوريون أول رئيس لوزراء إسرائيل. والهدف الثانى لتغلغلها فى شرق أفريقيا بالذات هو تأمين حرية ملاحة إسرائيل فى البحر الأحمر، بما يمكنها من الوصول إلى المحيط الهندى. أحتفظ أيضا بنسخة من محاضرة آفى ديختر وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى السابق، التى ألقاها فى شهر سبتمبر عام 2008 أمام الدارسين من معهد أبحاث الأمن القومى، وكان موضوعها هو: تقدير إسرائيل للوضع فى المنطقة. وقد أشار فيها إلى الوضع فى السودان، وان حرص إسرائيل على الضغط عليه وتفكيكه لاضعاف العمق الاستراتيجى لمصر. واعتبر ذلك من ضرورات تدعيم الأمن القومى الإسرائيلى. أمام هذا الكلام الذى يفترض انه معلوم بالضرورة فى السياسة. خصوصا بالنسبة للدبلوماسيين المصريين والعرب المعنيين بالشأن الأفريقى، فإن المرء لابد أن يستغرب البراءة المفرطة التى وصلت إلى حد المغالطة فى كلام مساعدة وزير الخارجية المصرى. أفهم أن الاحتفاظ بالمنصب ربما يكون دافعا إلى مراعاة حالة الصلح والمهادنة مع إسرائيل خصوصا فى أجواء «الاعتدال» الراهنة، لكن حين يكون ذلك مؤديا إلى المغالطة والتخدير فيما خص مهددات حقيقية للأمن القومى، فان التغليط فى هذه الحالة لن يختلف عن فعل الذى جاء يكحلها فأعماها! [email protected]