تركتُ مناقشة فى الخرطوم حول التطبيع مع إسرائيل، ووجدتُ أن المناقشة مستمرة فى القاهرة حول ذات الموضوع. جرى حوار الخرطوم فى إحدى جلسات المؤتمر القومى، التى نوقش فيها ملف الإعلام والمقاومة. وقدم فيها زميلنا غسان بن جدو، أحد نجوم قناة «الجزيرة»، ورقة شرح فيها موقف القناة من ظهور بعض الإسرائيليين على شاشاتها. معتبرا أن ذلك يشكل استثناء ضروريا، وضريبة تدفها الجزيرة نظير السماح لها بتغطية الأراضى الفلسطينية. أما فى القاهرة فالجدل أثير بمناسبة أول زيارة يقوم بها لدار الأوبرا المصرية المايسترو الإسرائيلى دانيال بارينبوم. الموضوع كان واحدا، فى حين أن الاتجاهات بدت مختلفة. فالرأى القوى فى مناقشات مؤتمر الخرطوم كان مع مقاطعة إسرائيل ومنع صحفييها وسياسييها من الظهور على شاشات التليفزيون. أما الرأى الأعلى صوتا فى الإعلام المصرى وليس الأقوى بالضرورة كان مع الترحيب بالمثقفين والفنانين الإسرائيليين الذين يدعون إلى السلام ويعارضون الاحتلال. حين تتبعتُ المناقشات الدائرة على الجانبين وجدتُ أن هناك التباسا واشتباكا بحاجة لأن تتضح فيه الخطوط والمعايير. بطبيعة الحال ليس لدى كلام مع دعاة التطبيع فى كل الأحوال، الذين مازلت أجد حرجا فى مصافحة الواحد منهم، لشكى فى طهارة أى يد تصافح إسرائيليا. ولكننى أناقش آراء الوطنيين الغيورين الذين تحركهم النوايا الحسنة ولهم تقديرهم واجتهادهم فى رؤية المصالح العليا. ذلك أننى أعتقد أن مقاطعة المثقف للإسرائيليين ينبغى أن تكون الأصل فى كل الأحوال، طالما ظلت إسرائيل على موقفها الاحتلالى وسياساتها الاستيطانية، وأعتبر أن تلك المقاطعة هى الموقف الشريف الذى يمكن أن يتسق به المثقف الحر مع ضميره الوطنى. لا فرق فى ذلك بين مثقف فى دولة اختار نظامها أن يتصالح مع إسرائيل، أو دولة ظلت على موقفها من رفض الصلح طالما ظل العدوان الإسرائيلى مستمرا. هذا الأصل يمكن أن ترد عليه استثناءات تفرضها الضرورات التى تبيح المحظورات، من هذه الاستثناءات مثلا ما يلى: * أن يكون المثقف فلسطينيا ومضطرا إلى العيش إلى جوار الإسرائيليين. * أن يكون الإسرائيلى معارضا للصهيونية وليس فقط معارضا للاحتلال. * أن تضيق الخيارات بحيث تكون المصلحة مرجحة على الضرر والمفسدة الناشئتين عن التواصل مع الإسرائيليين. فى غير هذه الحالات، حين تتسع الخيارات وتنتفى الضرورات، فإن الالتزام بأصل المقاطعة هو ما ينبغى أن ينحاز إليه كل مثقف شريف. وأى مساومة أو تفريط فى هذا الموقف تصب فى مجرى موالاة العدو ومكافأته وتشجيعه على التمدد والتمكين من الأرض المحتلة. ذلك أنه إذا كانت المقاومة المسلحة أعلى درجات التعبير عن رفض الاحتلال، فإن المقاطعة هى أدنى تلك الدرجات. إذ هى وحدها التى تذكره بجريمته طول الوقت. إذا قمنا بتنزيل المعايير التى أشرت إليها على أرض الواقع، فذلك سوف يمكن الفلسطينيين من الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم مباشرة مع الإسرائيليين، وسوف يسمح بمد الجسور مع العناصر الرافضة للصهيونية داخل إسرائيل وخارجها، كما سيقنعنا بأن دعوة الموسيقار الإسرائيلى كانت تطبيعا لأن الأمر لم تكن له أى ضرورة، وسيجعلنا نحتمل ظهور الإسرائيليين بصفة استثنائية فى بعض البرامج التليفزيونية. طالما كان ذلك شرطا لتغطية الأحداث فى إسرائيل والأراضى التى احتلتها. إذ سيكون المردود فى العالم العربى متجاوزا كثيرا للثمن الذى دفع. وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى تدفع فيها إسرائيل أكثر مما تقبض، لأنها اعتادت منا أن تقبض دون أن تدفع. بحيث تبتلع هى الأرض ونأكل نحن الهواء.