تشير نتائج الاستفتاء العام الذى أجرى فى تركيا فى 12 سبتمبر، إلى أن الجمود فى العلاقة بين تركيا وإسرائيل سيستمر. صحيح أن الاستفتاء تناول قضايا داخلية، إلا أن نتائج تظهر أن أغلبية الذين شاركوا فيه يدعمون سياسة الحكومة فى مجالات أخرى، بما فيها السياسة الخارجية. ويقود وزير الخارجية التركى منذ فترة سياسة دولية وإقليمية تستند إلى كتابه «العمق الاستراتيجى»، وتهدف إلى تعزيز مكانة تركيا فى المجال الجيوسياسى القريب، وذلك من خلال توطيد العلاقات مع الدول العربية والإسلامية. ويفسر هذا التوجه، بالإضافة إلى البحث عن دور أساسى فى منطقة الشرق الأوسط، الأزمة الحادة التى تمر بها العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وفى الوقت الذى لا تحاول تركيا إيجاد تسوية لأزمتها مع إسرائيل، نراها تبذل جهدها لتوضح أن تعزيز علاقاتها مع الدول الإسلامية وخصوصا مع إيران، لا تضر ولا تتعارض مع رغبتها فى توطيد علاقاتها مع دول الغرب ولا مع رغبتها فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. إن الإصلاحات التى أقرت فى الاستفتاء تتعلق بتغيير الدستور الذى وضع بعد الانقلاب العسكرى الذى جرى فى سنة 1980 فى تركيا، وهى جزء من الخطوات الليبرالية الداخلية التى طالب بها الاتحاد الأوروبى فى أثناء المفاوضات التى جرت تحضيرا لانضمام تركيا إليه. وفى الواقع يحق لحزب السلطة بزعامة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان أن يرى أن نتائج الاستفتاء منحته صلاحيات ودعما واسعين، وأن ينظر إليها بصفتها انتصارا موقتا على التيار العلمانى الوفى لإرث أتاتورك. كما أن للاستفتاء انعكاساته على العلاقة بين الحكومة والجيش، فقد تسببت نتائجه بتآكل جديد فى نفوذ الجيش، وفى قدرته على التدخل فى الحياة السياسية الداخلية والخارجية، وفى كونه مركز قوة منافسة لحزب العدالة والتنمية. وكثيرا ما كان الجيش والأجهزة الأمنية فى تركيا هما القوة التى تقود إلى تطوير وتعزيز العلاقات بين تركيا وإسرائيل. ومن هنا، فإن ضعف موقع الجيش وتراجع نفوذه سيكون لهما انعكاس على السياسة الداخلية والخارجية، وسيجعلان ترميم العلاقات بين البلدين صعبا. لم تكن قضية «أسطول الحرية» وسيطرة سلاح البحر الإسرائيلى على سفينة «مافى مرمرة» السبب فى تدهور العلاقات، وإنما هما العامل الذى سرع هذا التدهور، إن عملية «الرصاص المسبوك» على غزة بعد ساعات قليلة من زيادة رئيس الحكومة إيهود أولمرت لأنقرة، ووقف المفاوضات بين سوريا وإسرائيل بوساطة تركية، ووصول الليكود إلى السلطة فى إسرائيل، أمور كلها اعتبرت إهانة للرئيس التركى. وقد فاقمت قضية الأسطول التركى المتوجه إلى غزة، تأزيم العلاقة بين الدولتين وساهمت فى تعميقها. على إسرائيل أن تأخذ فى حسبانها أن التعاون فى المجالين الأمنى والعسكرى لن يعود إلى الكثافة التى كان عليها، والتى طبعت العلاقات بين البلدين قبل الأزمات التى حدثت فى الأعوام الثلاثة الأخيرة. لقد سمحت الوساطة بين سوريا وإسرائيل خلال السنتين 2007 2008 لتركيا بتحقيق أحد أبرز أهداف سياسة «العمق الاستراتيجى» وب«تصفير المشكلات مع جيرانها». وعلى الرغم من تكرار وزير الخارجية التركى استعداد بلده للعودة إلى ممارسة دوره كوسيط بين إسرائيل وسوريا، فإن من الصعب أن توافق إسرائيل على ذلك، على الرغم من رغبتها فى ترميم العلاقات، ولا سيما فى ظل التطورات التى تجرى داخل تركيا، والتى تجلت فى إضعاف نفوذ الجيش التركى، وفى اعتقال عدد من ضباطه السابقين (الذين يشكلون الحلقة البشرية التى ربطت بين الدولتين)، وفى نتائج الاستفتاء العام. وما يثير قلق إسرائيل أيضا التقارب الذى حدث فى الأعوام الأخيرة بين الحكومة فى أنقرة والحكم فى طهران. وعلى الرغم مما ذكر أعلاه، فإننا نستطيع أن نجد صيغا للتفاهم بشأن المطالب التركية تجاه موضوع الأسطول. فإنشاء منطقة للتجارة الحرة بين تركيا والأردن وسوريا ولبنان، وكذلك المساعدة التركية فى إنشاء مناطق صناعية فى السلطة الفلسطينية، إنما يدلان على قدرة تدخل إيجابية تركية فى الاقتصاد الإقليمى. كما أن الحاجة إلى تدخل طرف ثالث فى إطار حل النزاع بين إسرائيل وسوريا، وبين إسرائيل والفلسطينيين، من شأنها أن تمنح تركيا دورا إيجابيا ينسجم مع تطلعاتها السياسية فى المنطقة. علاوة على ذلك، فإن اكتشاف الغاز الطبيعى بالقرب من شواطئ غزة وإسرائيل، وربما مستقبلا بالقرب من الشواطئ اللبنانية والسورية سيساعد فى إعطاء تركيا دورا مهما فى إطار شبكات النقل. يجب أن تدفع نتائج الاستفتاء العام فى تركيا إسرائيل إلى التسليم بأن أردوغان وحزبه باقيان فترة ما فى الحكم، وعليها أن تستعد لمثل هذا الاحتمال. إن السقفين السياسى والأمنى اللذين تضعهما تركيا لإعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل هما سقفان عاليان، لكن لدى إسرائيل أدوات وأوراق تعطيها القدرة على المناورة تجاه تركيا. كما يجب تشجيع المبادرات لتحويل النقاش التركى الإسرائيلى من مجال التصريحات إلى مجال البحث عن أطر للتعاون المشترك تتلاقى فيها المصالح بين إسرائيل وتركيا.