تطلق بعض جمعيات المجتمع المدنى حملات للوقوف فى وجه الغلاء الفاحش، وتقدم النصح لربات البيوت والأسر المصرية التى تعانى فى إدارة ميزانيتها الشهرية، فراتب أول الشهر لا يصمد أمام لهيب الأسعار. تعودت سعاد منذ زواجها قبل عشر سنوات أن تقضى الأسبوع الأخير من الشهر دون نقود، بعد أن تكون قد سددت فى بدايته بنودا مهمة تلتهم دخلها بالكامل. شأن أسرة سعاد الأم والمهندسة الثلاثينية شأن العديد من الأسر المصرية، إذ يلتهم الغذاء وتعليم الأطفال الجزء الأكبر من ميزانية الشهر، كما تشير دراسات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء. فقد جاء فى تقرير نشره مؤخرا الجهاز المذكور أن تضخم الأسعار فى الحضر استقر عند 10.7% خلال 12 شهرا حتى يوليو الماضى، إذ ترتفع الأسعار بصورة حادة على أساس شهرى. والتحدى الدائم والمزمن لدى الأسر أصبح كيفية إدارة الميزانية التى تحتاج أحيانا إلى «خبراء البنك الدولى» على حد تعبير سعاد. الأمر الذى دفع المجتمع المدنى للتفاعل من أجل إيجاد حلول، فتحت شعار «اضغط مصروفاتك تستقر حياتك» تحاول جمعية مواطنون ضد الغلاء وحماية المستهلك أن تجد مخرجا من هذه الحلقة المفرغة. يقول المهندس محمود العسقلانى، مؤسس ورئيس الجمعية: «نسعى لبث أفكار جديدة فى المجتمع مثل عدم التمسك بتقاليد بالية قد ترهق ميزانية الأسرة المصرية. فمن غير المعقول أن نقوم بإنفاق نحو مائة مليون دولار على ياميش رمضان، بينما معظم المجتمع من الأسر الفقيرة. نحن نوجه دعوة للجمهور بمقاطعة هذه السلع مع بداية العام الدراسى الجديد، فقد أطلقنا حملة قبل رمضان تحت عنوان (نقدر نعيش من غير ياميش). ثم جاءت حملتنا الثانية قبيل العيد تحت اسم (بلاها كحك) من أجل تدريب الناس على ضغط المصروفات». دخلت الجمعية على هذا النحو فى حرب ضروس مع مجتمع التجار الذى يحاول إغراء المواطن عن طريق طرح بعض السلع الاستهلاكية لأول مرة بالقسط الشهرى، ويضيف العسقلانى: «لا أتصور أن يثقل بيت ميزانيته بعبء أقساط إضافية لمجرد أنه لا يريد أن يمر عليه موسم دون أن يتذوق الكعك أو حبات البندق، هدفنا إذن هو طرح فكر جديد فأصعب ما يعانيه مجتمعنا هو فقر الفكر». تحاول جمعية «مواطنون ضد الغلاء» أن تتفاعل مع معطيات الواقع وقيمه السائدة. العسقلانى يرى مثلا أن هناك 9 ملايين فتاة عانس فى مصر وبالتالى ليس من الطبيعى أن تقوم الأسرة المصرية فى ظل التضخم الحالى بالمغالاة فيما يتعلق بمتطلبات الزواج لمجرد أن المجتمع المصرى يحب المحاكاة والتقليد، فإقناعه بتبنى أفكار مختلفة يتم من خلال إعطاء نموذج حى كما حدث فى إحدى قرى الصعيد بحسب العسقلانى: «نجحنا فى إقناع عمدة قرية بمحافظة قنا بألا يأخذ شبكة لتزويج ابنته ويضرب المثل لأبناء قريته». صممنا كذلك قائمة بسيطة لاحتياجات العروس وأطلقنا عليها اسم (قائمة أبوتريكة) لما هو معروف عن تواضع هذا اللاعب. فشعار هذه الحملة هو (نعم لقائمة أبوتريكة، لا لقائمة دروجبا) وهو اللاعب المعروف بغروره وتكبره!». ثم يروى العسقلانى كيف أنه شخصيا تزوج من ابنة عمدة فى ظروف متواضعة وكيف أنهما باعا الشبكة بعد فترة وجيزة من الزواج لشراء غسالة ملابس. لماذا لا يختصر أبناء الجيل الجديد المسافات ويضربون بالمظاهر عرض الحائط؟ سؤال يردده رئيس جمعية «مواطنون ضد الغلاء» الذى يستعد للسفر إلى السودان بدعوة من الحكومة السودانية لزيارة مزارع الثروة الحيوانية هناك والتأكد من جودتها فتكون بديلا عن اللحوم البلدية التى وصلت أسعارها لأكثر من ستين جنيها بسبب مافيا اللحوم. محمول لكل مواطن جمعيات المجتمع المدنى التى تعمل فى هذا المجال تحاول إذن تحريك المياه والأفكار الراكدة وتسعى لإرساء سلوكيات استهلاكية بعينها تكون بمثابة الخطوة الأولى لمواجهة التضخم. تقول الدكتورة عنان هلال، رئيسة جمعية عين مصر لحماية المستهلك والبيئة ونائبة رئيس جهاز حماية المستهلك إن الأسرة المصرية لابد أن تعيد بدقة ترتيب أولوياتها. فهناك - على حد تعبيرها - بنود يمكن التقشف فيها إلى أقصى درجة، موضحة: «نجد مثلا أسرة فقيرة يمتلك كل أفرادها محمولا ويتحدث فيه لفترة طويلة، ثم يشكون فى النهاية ضيق ذات اليد. دخل الفرد فى مصر بسيط وزيادته السنوية لا تتناسب مع التضخم، لكن جزءا من الحل يكمن فى ضغط النفقات وترتيب الأولويات كوسيلة لإدارة الأزمة». اتجه المواطنون فى المجتمعات الغربية لنمط مرن من الاستهلاك يتجاوب أكثر فأكثر مع واقعهم ومقومات الحياة العصرية، فليس من العيب ألا نقدر على شراء سلعة ما، لكن العيب أن نحاول الظهور بصورة تفوق إمكاناتنا، على حد قول خبراء ترشيد الاستهلاك. فعندما يزداد الطلب على سلعة ما يحدث ما يسميه الاقتصاديون «السحب التراكمى» وبالتالى يرتفع ثمنها بحسب تفسير الدكتورة عنان هلال. وهى تضيف: «قد يتساءل البعض لماذا لم تنجح حملات المقاطعة التى أطلقناها؟ لأن السحب كان يتم عن طريق فئة القادرين التى قد تشترى دون حساب، وبالتالى لم يشعر التجار بوجود مشكلة. فهناك فئة من المقتدرين ليس عندها الثقافة ولا الوعى اللازمان، وهى مجموعة تفتقر للتضامن مع غير القادر وتضرب بمصالحه عرض الحائط. الإعلام أيضا يلعب دورا فى زيادة الأسعار بترويجه لفكرة ما دون أساس، فتكون وسيلة للتجار لجس نبض الجمهور ورفع الأسعار. ما أنشده هو الشعور بالمسئولية الجماعية وعدم انغلاق كل فرد على ذاته». من ناحية أخرى، تقدم الدكتورة ابتهال رشاد خبيرة التنمية البشرية بعض الحلول لمواجهة التضخم الحالى وحسن إدارة الميزانية العامة للأسرة: «يمكن للأسرة أن تخصص مجموعة من المظاريف لأوجه الإنفاق الثابتة فى ميزانيتها: مظروف لميزانية الغذاء، مظروف لبند التعليم، مظروف للكهرباء وهكذا، وعليها أن تحاول احترام كل ميزانية على حدة»، كما يوصى البعض باتباع نظام «الجمعية» وعدم اللجوء إلى نظام القسط حتى لا تتحمل ميزانية الأسرة نفقات الفائدة الإضافية. وتضيف الدكتورة ابتهال رشاد: «يجب أيضا تنمية مهارات أفراد الأسرة تجاه إدارة الأزمات وإدراج بعض هذه التقنيات بشكل عملى فى التعليم المدرسى والجامعى»، وهو ما يحاول بالفعل أن يقوم به طلعت، المحاسب الأربعينى، الذى يدرب ابنه البالغ من العمر 16 سنة على إدارة ميزانية البيت، فإذا نجح الشاب فى توفير أى بند من التكاليف يحصل على ما تبقى من المصروف لنفسه. فلهيب الأسعار يدفعنا دفعا نحو التغيير وإلا نكون جميعا كالسيدة سعاد التى تصف حالتها قائلة: «أشعر وكأن الحبل ينفلت من يدى لأجبر على الهبوط السريع إلى أسفل حتى أترك صفوف الطبقة الوسطى دون رجعة».