فى رمضان تنفتح مساحة جديدة للاختلاف الثقافى بالنسبة للأجانب المقيمين فى مصر. «انتفاضة التقوى» التى لا يفهم الغرباء بعض أشكالها، فيحاول بعضهم التجريب والاقتراب ويحاول البعض الآخر التفهم والتأقلم ولكن البعض أيضا يخفى بالكاد غيظه وإحساسه بفقدان بعض حريته الشخصية. يحاول جورج، الشاب الألمانى العشرينى، أن يجرب الصوم فى رمضان. لم يعتنق جورج الإسلام، ولكنها بالنسبة له تجربة يسعى من ورائها لتفهم هذا الآخر ويحاول أن يتجاوز الفروق الثقافية. أرهقته التجربة نوعا ما لا سيما مع درجة حرارة القاهرة التى تعدت الأربعين، فقام بالتخفيف من وطأة الصوم وسمح لنفسه بتناول بعض الماء. يقول جورج: «أستطيع أن أتفهم لماذا يمتنع المسلمون عن الطعام حتى يشعروا بجوع الآخرين، لكن ما لا أفهمه هو لماذا يمتنعون أيضا عن الشراب رغم أن ذلك قد يؤذى صحتهم خاصة مع احتياج الجسم للسوائل فى مثل هذا القيظ». وعندما أخبره أحد أصدقائه أن الامتناع عن الشراب قد يشعره أيضا بنقص الماء لدى البلاد التى تعانى من الجفاف، قرر جورج أن يجرب الصوم مرة أخرى دون شراب. ولكن حتى أذان الظهر فقط. جورج أتى إلى مصر لاستكمال دراسته فى مجال سياسات الشرق الأوسط، ويقيم فى القاهرة منذ نحو عام، قضاه متنقلا بين عدة دول عربية فى محاولة لسبر أغوار العقلية الشرقية. هو يرى أن ثقافة البلد تبدو بشكل واضح فى رمضان الذى يكتسب خصوصية فى مصر. يعتبر شهر رمضان مناسبة جيدة للمستشرقين لرصد وتسجيل حياة المصريين بعين قريبة. فقد حرص الرحالة والمستشرقون والمبعوثون الأجانب ممن زاروا مصر خاصة فى الفترة المملوكية والعثمانية على رصد كل مظاهر التقاليد والمعتقدات الشعبية المتوارثة. وكما يذكر فريتشارد بيرتون الرحالة الأيرلندى الذى زار مصر عام 1853م أن مختلف الطبقات تراعى شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد، رغم قسوتها، فلم أجد مريضا واحدا اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته، ويذكر أن الأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذى يغلف طباعهم، وعند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات، ينتظرون لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلا، داعيا الناس للصلاة، ثم ينطلق المدفع الثانى من قصر العباسية «سراى عباس باشا الأول» وتعم الفرحة أرجاء القاهرة. تنم هذه الشهادة عن تعاطف واحترام ولكن هناك أيضا تساؤلات عديدة دارت منذ زمن ومازالت تدور فى أذهان الأوربيين تبرز الخلاف الثقافى. وهى التساؤلات التى يطرحها جان، صحفى فرنسى، ثلاثينى، يعيش فى مصر منذ سبعة سنوات. وهو يقول: «كيف يمكن للدين أن يتدخل بهذا الشكل فى حياة الناس كى يقلل من إنتاجية المواطن أو جودة عمله؟ فقد يكون تقليل ساعات العمل فى المؤسسات الحكومية أمرا غير مقبول بالنسبة للأوربيين. ورغم أن الدين قد دعا إلى النشاط فى العمل ونبذ روح الكسل، بل إن كثيرا من الفتوحات والانتصارات الإسلامية، كانت فى رمضان، كما سمع جان من والدته التى تعتنق الإسلام، لكنه يقول: «جولة واحدة فى الشوارع تكفى كى تؤكد أن روح الشعور بمعاناة الآخر تتلاشى. فسائق التاكسى أو الميكروباص يكون قد وصل لأقصى درجات التوتر بسبب امتناعه عن التدخين بل يكاد يلقى بى فى عرض الطريق كى يلحق الإفطار. بل إنه يخترق الشوارع بسرعة جنونية غير عابئ بإشارة حمراء معرضا حياتى وحياته للخطر». دور مختلف للدين تقول الدكتورة نادية رضوان، أستاذة علم الاجتماع بجامعة قناة السويس: «اختلاف رجل الشارع فى مصر مع رجل الشارع فى أوروبا أو أمريكا فيما يخص قضية الدين يعتبر اختلافا فى الطور الثقافى. فبينما قرر الغرب منذ زمن قصر الدين على دور العبادة، يكتسب الدين فى مصر قوة ووجودا فى الحياة اليومية بل ومرجعية للقرارات المصيرية. وهو ما لا يفهمه الغربيون النازحون من ثقافة مختلفة تعتمد فى الأساس على الفكر البراجماتى وتعلى من شأن حرية الفرد وحقوق الإنسان» تضيف: «أحيانا نبدو كاثنين موجودين فى حجرة واحدة، يحاولان التواصل بينما قد لا يفهم كل منهما لغة الآخر». لذا يعتبر نيقولا، ايطالى الجنسية، أربعينى أن جو «التقوى» فى مصر «خانق» و«اصطناعى» على حد تعبيره. وهو يقول: «أشعر أنه فى رمضان يحدث للناس شعور مفاجئ بالتقوى. ففى الشارع ووسائل المواصلات والعمل تجد الجميع منكبا على القرآن يقرأ فيه، لا أدرى لماذا يحتاج التدين إلى مثل هذه التظاهرات بينما الإيمان هو فى الواقع علاقة شخصية جدا لا يجب أن تتم بهذا الشكل الذى قد يعتبره الشرقيون وسيلة لاكتساب احترام الآخرين بينما نعتبره نحن نوعا من الرياء وارتداء عباءة الصالحين». ف«نيقولا» الذى يفضل اليوم أن يعيش بلا دين، لا يفهم لماذا تقيد حريته فى شهر رمضان على هذا النحو، يطرح مجموعة من التساؤلات: «لا أفهم لماذا تغلق معظم المطاعم لا سيما الشعبية منها؟ لماذا لا يسمح مثلا للمصريين بأن يرتادوا محال الخمور فى هذا الشهر بينما توجد نسبة أقباط تصل للعشرة بالمائة، ألا يعد ذلك نوعا من التمييز؟». يضطر نيقولا إذن لتغيير نمطه الحياتى فى هذا الشهر حانقا، فهو يأكل جيدا قبل أن ينزل من بيته حتى لا تطارده عيون المتربصين كما أنه لا يضمن أن يجد فى طريقه مطعما يعمل فى وقت الغذاء. يشرح تخوفه من تناول أى طعام فى مكان عام: «ملامحى متوسطية، لا آكل فى الشارع حتى لا أضطر للدخول فى لعبة القط والفأر مع الشرطة ظنا منها بأننى من أهل البلد». فى روما أصنع مثل الرومان وبين من يسعون لتفهم الآخر ومن يضيقون ذرعا بفكره، هناك فئة أخرى تسعى للتأقلم. تعتقد فرانسواز، مدرسة فرنسية، ثلاثينية، بأنه إذا كنت فى روما فلتصنع مثل الرومان. تصر فرانسواز على قضاء شهر رمضان فى القاهرة منذ عدة سنوات رغم حرارة الجو لأنها تعتقد بأن فى هذا الشهر يكمن سحر الشرق وروحانياته بل ودفئه الذى قد يفتقده جليد الحياة الغربية سواء فى أروقة المساجد أو شفافية الصائمين أو فى فرحة الفقراء على موائد الرحمن. ترحب فرانسواز إذن بدعوات السحور والإفطار التى تسعى إليها حيث تحرص على تناول الأطعمة المصرية. تخصص بعض أمسيات الشهر لزيارة الحسين، والتجول فى أروقته كى تتبضع من أسواقه والاستمتاع بالجلوس على مقاهى الحى العتيق: «أستطيع أن أشتم رائحة ألف عام هى عمر هذا المكان الذى مازالت مصابيحه تتلألأ فى الليالى الرمضانية»، هكذا تقول فرانسواز التى تتشوق إلى التردد على جلسات الذكر لدى أبناء الطرق الصوفية والتعرف على أسلوبهم فى العشق الإلهى»، على حد تعبيرها. تقول: «رغم التغيير الذى يطرأ على نمط وإيقاع الحياة فى هذا الشهر، فأعتقد أنه قد يكون من المفيد أن نجرب لونا آخر للحياة. ولم لا؟ فلماذا قدمنا إذن من بلادنا؟ هل لنعيش بثقافتنا فى هذه المجتمعات أم نفرضها على هذا الآخر؟».