فى محاولة بحثنا عن الخطاب الدينى الرشيد، وما ينبغى له من إطار وشروط وضوابط، لابد أن ننطلق من التذكير بأصول الفكرة الدينية، مثل ما هو الدين؟ وما هى عناصره الرئيسية؟ وكيف يتدين العبد؟ وكل ذلك تمهيد لكيفية صنع الخطاب الدينى. 1 ما هو الدين؟ فى لغتنا العربية جذر ثلاثى (دان يدين) يعبر عن موضوعين، أحدهما حسى مادى، والآخر معنوى، فنعبر عن الحسى المادى قائلين (دَين) بمعنى المال الذى يقع فى ذمة شخص آخر، فصاحب المال دائن ومقترضه مدين والمال الذى بينهما هو الدَين بفتح الدال أما الاستخدام المعنوى فهو(دِين) بكسر الدال بمعنى الالتزام الشرعى بين مصدر الإلزام (الله) والشخص الملتزم (العبد المتدين) وموضوع الالتزام (الدِين) بكسر الدال. وهذا الفعل (دان/يدين) عبارة عن ثلاث صيغ هى (دانه يدينه)فعل متعد بنفسه و(دان له)فعل متعد باللام و(دان به) فعل متعدٍ بالباء، ومن هذه الصيغ نرى أن محور مصطلح الدين يدور حول معنى (اللزوم) أى الإلزام والالتزام. فإذا قصدنا القوة الملزمة وقلنا(دانه دِينْا) أى ملكه ودبّره وقضى فى شأنه وجازاه، فهذا الفعل يعبر عن مصدر الإلزام وهو الملك القدوس (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (4) (الفاتحة)، وإذا عبرنا عن الموضوع الذى يلتزم من العباد قلنا (دان به) أى اتخذه دينا ومذهبا وعقيدة اعتقدها بقلبه واعتاد بالعمل طبقا لها، وتخلق به، وهذا هو مادة الدين وطبيعته (عقيدة وشريعة وأخلاق). و إذا عبرنا عن الشخص المتدين(دان له) أى أطاعه وخضع له، فمن ناحية المتدين يكون الدين هو طاعة الأمر والنهى والخضوع لمصدرهما. هذا الذى ذكرناه الآن هو التعريف العام لكلمة الدين، فهو كلام عن إطار فكرة حقيقة الدين كما تراه كل أمة، فنجد أمامنا مادة خصبة نستطيع تأملها، فنضع منها تعريفا لمعنى الدين السماوى. فالمسلمون اصطلحوا على تعريف الدين بأنه «وضع إلهى يختاره الناس ليرشدهم للحق فى الاعتقاد، وللصحيح والصواب فى المعاملات وللحسن والجمال فى الأخلاق»،أما فلاسفة الغرب فنجد عندهم تعاريف متعددة فهذا (سيسرون) يعرف الدين بأنه«الرباط الذى يصل الإنسان بربه» أما (كانت/ كانط) فيرى الدين أنه» الشعور بواجباتنا باعتبارها أوامر إلهية» لكن (الاب شاتل) فى كتاب (قانون الإنسانية ) يقرر أن الدين «مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق ونحو الناس ونحو نفسه». أما (روبرت سبنسر) فيعرف الدين بأن عنصره الرئيسى هو«الإيمان بوجود قوة لا يحدها مكان ولا زمان» أما (تايلور) فيرى الدين بأنه «الإيمان بوجود كائنات روحية»، فإذا قرأنا كتاب (نشأة الدين ونموه) وجدناه يعرف الدين بأنه : «محاولة تصور ما لا يمكن تصوره والتعبير على ما لا يمكن التعبير عنه والتطلع إلى اللانهائى وهو حب الله» ونجد تعريفا آخر عند (أميل برنوف) فى كتاب (علم الديانات) للدين أنه « العبادة، والعبادة عمل مزدوج -عقلى وقلبى- يعترف عقل الإنسان بقوة سامية ويتجه قلبه لطلب رحمة تلك القوة» وقد كتب (شلاير ماخر ) فى كتاب (مقالات عن الديانة) فقال «قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة لقوة قادرة ماهرة» وقال (ريفيل) فى كتاب (مقدمة فى تاريخ الأديان) «إن الدين شعور الإنسان بصلة بين روحه وبين روح خفية، يقر لها بالسلطان عليه وعلى سائر العالم، ويزداد سعادة لاتصاله بهذه الروح». أما (جويوه) فى كتاب (لا دينية المستقبل) فيقول: «الديانة هى تصورك بأن جميع البشرية مجموعة إنسانية واحدة، والشعور الدينى هو الشعور بتبعيتنا لمشيئة أخرى يركزها البدائيون فى الكون» وفى كتاب (تعاليم خلقية ودينية) يذكر (ميشيل مابير) أن الدين «هو جملة العقائد والوصايا التى يجب أن توجهنا فى سلوكنا مع الله، ومع الناس، وفى حق أنفسنا»، ويقرر (سلفان بيريسيه)فى كتاب (العلم والديانات) أن الدين «الجانب المثالى فى الحياة الإنسانية» أما (سالمون رينا) فى كتاب (التاريخ العام للديانات)فيرى أن الدين «مجموعة التورعات التى تقف حاجزا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا» كما كتب (إيميل دوركايم) فى كتاب (الصور الأولية للحياة الدينية) أن الدين«مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة الممنوعات المحرمة وهذه الاعتقادات تجمع المؤمنين بها فى جماعة معنوية تسمى الملة». هذه هى تعريفات الدين عند العقائد والفلسفات المختلفة، أما ما يستنبط منها من معان ومفاهيم فموعدنا غدا إن شاء الله.