اشتُقت كلمة الدين من الفعل (دانَ)، ودان لفلان التزم بحق لفلان عليه، أي أن الدين من الأصل ليس إلزاما إلهيا للناس كما يُفهم من خطاب الإسلاميين، وإنما هو التزام من الناس بحق الله عليهم، يعبر عن اقتناعهم بأنه ينبغي عليهم أن يستجيبوا لله، وأن يستعينوا به، (إيَّاكَ نعبُد وإياكَ نستعين). بينما اشتُقت كلمة السياسة من الفعل (ساسَ)، وساسَ القوم وجّههم إلى ما فيه نفع لهم، أي أن السياسة توجيه علويّ من قيادة إلى جماهير، وإنما نزلت السياسة إلى الجماهير حين تم إشراك الجماهير في اختيار من يتولون توجيه حركة المجتمع إلى ما يحقق النفع بصورة متوازنة بين طبقات المجتمع وفئاته. كانت السياسة إذن عملا برأي الفرد ثم تم تطويرها لتصبح عملا برأي الشعب، ولكي يتحدد رأي الشعب كانت الأحزاب وحرية الصحف وتداول المعلومات، وكانت المعارك السياسية وما تحتاج إليه من جدال ومناظرة ودعاية، فتطورت السياسة من التوجيه الفردي إلى التوجيه الجماعي، وتم الاحتكام إلى صندوق الاقتراع. ولا نستطيع أن نقول أما الدين فقد كان كذا ثم تطور إلى كذا، وإنما نستطيع أن نكرر أنه التزام وليس إلزاما، وأنه تضمن تذكير الإنسان نعم الله عليه، وبأن الله سوف يحاسبه يوم القيامة على كل ما عمل من خير وشرن، وتضمن إرشادا إلى السلوك الأفضل في بعض المواقف، ليتجنب الإنسان ظلم أخيه، أو لتقل حدة الظلم، ومن الأول تحريم الربا ومن الثاني الإحسانُ إلى العبيد. فهل ترى في الدين من سياسة؟ وهل ترى في السياسة دينا؟ نعم في السياسة دين، حيث احتكم الخصوم السياسيون إلى صندوق الاقتراع، ودانوا لحكمه، وفي الدين سياسة حيث لم يكن الدين إلزاما قسريا وإنما كان التزاما طوعيا، وكان الدين إرشادا إلى الخير المستطاع من غير مشقة، فلم يأمر الدين مثلا بتحرير عامة العبيد، وإنما التمس مناسبات لتحرير الآحاد منهم وأمر بالإحسان إلى من يبقى في العبودية. وقال القرآن الكريم (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). بهذا المعنى في الدين سياسة وفي السياسة دين. وآفة السياسة ألا يدين السياسيون لحكم صندوق الاقتراع، أو أن يمنعوا من له حق التصويت عن إبداء رأيه، فضلا عن أن يزوِّروا إرادته. وآفة الدين أن يتحول من التزام طوعي إلى إلزام قسري، ومن أمرٍ بما هو في وسع الناس إلى أمر بما يشق عليهم أن يفعلوه. والذي يكفر بالدين في السياسة هو من لا يَخضع للنتيجة الحقيقية للتصويت، ومن يحرم من التصويت من يحق له التصويت، ومن يزوِّر نتيجة التصويت، وهؤلاء هم زعماء الفساد السياسي، والذي يكفر بالسياسة في الدين هم الذين يتحدثون باسم الدين فارضين على غيرهم أن يفهم من نصوصه ما فهموا، زاعمين زورا أنهم لا يفرضون على أحد شيئا، بحجة أنهم يعبِّرون عن التزام جمعي، لأن الأمة أمة مسلمة، ولأن دستورها (الآيل للسقوط) ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهؤلاء هم زعماء الفساد الديني. فزعماء الفساد السياسي يتكلمون باسم الشعب والشعب لم يفوضهم للتحدث باسمه، وإنما هم مستبدون مغتصبون للسلطة، وزعماء الفساد الديني يتكلمون باسم الله، والله لم يسمح لأحد أن يتكلم باسمه، لقد قال الله كلمته لكل الناس، ولم يعيِّن فئة ولا شخصا ليكون متحدثا رسميا عنه إلى سائر للناس، ولكن هؤلاء يتكلمون باسم الله، ويفرضون على الشعب أن يلتزم بما ورثه عن السابقين من مفاهيم عن الشريعة الإسلامية، وكأن الشريعة شيء ما فهمه السابقون وعلينا أن نقلدهم فيه، ولا يحق لنا أن نكشف خطأً فيما ورثناه، أو أن نحاول فهم الدين بعقل مستقل ينتمي إلى الحياة المعاصرة، ثم هم يفرضون ما يظنون أنه الشريعة موسِّعين إطاره ليشمل كل موقف وكل قضية، بينما الشريعة دعوة إلى العمل الصالح، ولم تتضمن إرشادا تفصيليا إلا في مسائل قليلة، ثم هم يفرضون ما فهموه شاملا كل الحياة، وكأن الدين إلزامٌ قسري، وليس التزاما طوعيا. وتلك ظلمات ثلاث يكادون بها أن يطفئوا نور الله بأفواههم، كما يكاد الأولون أن يطفئوا نور الديمقراطية بتزويرهم. أحمد محمد عرفة