ابتلى المسلمون فى سنة 201ه بفتنة تعرف باسم (فتنة بابك الخُرَّمى) الذى خرج على الدولة وهزم جيوشها وكان يدعو إلى الإيمان بالحلول، وتناسخ الأرواح والإباحية الجنسية وغير ذلك من الكفريات واتبعه خلق كثيرون فَسُمُّوا (البابكية) نسبة إليه، وكان، كما يصفه ابن كثير، زنديقا كبيرا. وأخذت الدولة العباسية فى مواجهته منذ خروجه إلى أن كان زمن خلافة المعتصم التى بدأت سنة 218 ه، وكانت آخر وصايا أخيه المأمون له، وهو على فراش الموت، ألا يتوانى عن القضاء على بابك وأصحابه، بعد أن كان المأمون قد حاول القضاء على هذه الفتنة دون أن يوفق فى ذلك. وجه المعتصم قواده إلى المناطق التى كان يسيطر عليها بابك الخرمى فاستطاع أحد قواده وهو (حيدر بن كاوس الملقب بالأفشين) أن يقضى على بابك ويحرر البلاد التى كان يسيطر عليها من هذه السيطرة، ويقبض عليه هو وشقيقه عبدالله، ويأتى بهما إلى المعتصم. وفى أثناء انشغال المعتصم بحرب بابك وطائفته هاجم ملك الروم أطراف الدولة الإسلامية فدخل بلدة يقال لها (زِبَطْرة) وبلدة يقال لها (مَلْطِية) فأوقع بأهلهما خسائر هائلة، وأغار على ما فيهما من حصون المسلمين، وأسر أعدادا كبيرة من الرجال والنساء حتى قيل إن عدد النساء كان ألف امرأة، ومثَّلَ بمن أسره من رجال المسلمين تمثيلا شنيعا. وكان السبب أن بابك الخرمى راسل ملك الروم، عندما حاصره الأفشين، يخبره بأن الخليفة أرسل إلى موضع حصار بابك جمهور جيشه، ولم يبق فى أطراف بلاده من يحفظها، وقال له: «فإن كنت تريد الغنيمة فانهض من فورك إلى ما حولك من بلاد المسلمين فخذها» فصدّق ملك الروم كلام بابك وبادر إلى أقرب مدن المسلمين إليه وفعل بها ما فعل. وبلغت أخبار العدوان الرومانى المعتصم. وقيل له: إن امرأة هاشمية من الأسرى صرخت عندما أسرها الروم (وامعتصماه)! فأجابها من موضعه عندما بلغه ذلك (لبيكِ.. لبيكِ). ونهض من ساعته وأمر بالنفير لحرب الروم، وجهز جيشا لم يجهزه خليفة قبله، وأحضر قاضى بغداد عبدالرحمن بن اسحاق، والقاضى شعبة بن سهل، وشهودا كثيرين، فأشهدهم على ما وقفه من الضياع فعجل ثلثه لولده وثلثه لمواليه وثلثه لله تعالى، ووجه فرقة من هذا الجيش يقودها ثلاثة من أشجع قواده إلى (زِبَطْرة) لإعانة أهلها فوجدوا ملك الروم قد غادرها بجيوشه، فاستقروا بها قليلا، وأرسلوا إلى الأطراف يطمئنون أهلها أن جيوش الإسلام قد وصلت إلى بلادهم، وأن الروم قد خرجوا منها، فعاد الناس إلى قراهم واستقروا بها. وكان المعتصم قد قضى على بابك الخرمى فى رمضان سنة 222ه. فلما تجهز وخرج إلى بلاد الروم خرج إليها من سامرا (سر من رأى)، وعسكر فى بلاد الروم على نهر يقال له نهر اللمس قريبا من البحر بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وكان مكان معسكر المعتصم هو موضع تبادل الأسرى بين المسلمين والروم، إذا وقع بينهم أسر فى المواجهات التى كانت تحدث بين الفريقين من وقت إلى آخر. ولما بلغ أمر العدوان الرومى، على بلاد المسلمين، سأل المعتصم قواده: أى بلاد الروم أحصن وأمنع (يعنى أقوى حصونا وأكثر تسليحا وأكثر جندا)؟ فقيل له عمورية، لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهى أشرف عندهم من القسطنطينية. وأحسب، والله تعالى أعلم، أن المعتصم رحمه الله لو كانت بلغته الأحاديث المروية فى فتح القسطنطينية لتوجه إليها فاتحا؛ لكن الله تبارك اسمه ادخر القسطنطينية لآخر دول الإسلام الجامعة: الدولة العثمانية، وللخليفة الشاب البطل محمد الفاتح رحمه الله. وغدا نستكمل إن شاء الله.