حين نشرت بعض الصحف المصرية خبر إقدام زوجة رئيس الوزراء البريطانى على استئجار بعض الثياب الفاخرة للظهور بها فى عدد من المناسبات الرسمية، فإن الخبر قوبل بدرجات متفاوتة من الاستغراب والدهشة بين كثيرين أعرفهم. ذلك أن أحدا منهم لم يخطر على باله أن تكون زوجة أهم رجل فى بريطانيا بعد الملكة عاجزة عن شراء ما تحتاجه من ثياب مناسبة للحفلات التى يؤمها عِلية القوم، من رؤساء دول وحكومات. صحيفة «ديلى تلجراف» كانت من نشر تفاصيل الخبر، حيث ذكرت أن السيدة سارة براون من زبائن محال «ماركس آند سبنسر» التى يشترى منها عامة الناس ثيابهم. لكنها واجهت موقفا مختلفا حين كان عليها أن تظهر مع زوجها جودون فى عشاء رسمى أثناء اجتماعات قمة العشرين. إذ لم يكن بمقدورها أن تشترى «جاكت» أعجبها ثمنه 5 آلاف جنيه إسترلينى، فاستأجرته بعُشر ذلك الثمن ثم أعادته بعد ذلك إلى بيت الأزياء الذى صممه. وهو ما فعلته أيضا حين زار رئيس المكسيكلندن، وظهرت فى حفل استقباله مرتدية فستانا استأجرته من بيت آخر للأزياء. الخبر يبدو عاديا فى المجتمع البريطانى. إذ بوسع المواطن أن يتفهم الموقف، لأن أى واحد يستطيع أن يفتح جهاز الكمبيوتر ويدخل على موقع رئيس الوزراء، ليعرف أن راتبه الشهرى 15 ألفا و600 جنيه إسترلينى. وسيدرك أنه لن يقدم على دفع ثلث راتبه لشراء «جاكيت» لاستخدام زوجته فى إحدى المناسبات. وسيقتنع بأن لجوء الزوجة إلى استئجار الثوب تصرف حكيم ورشيد. ما استوقفنى فى الموضوع ليس الخبر فقط، ولكن هذه الشفافية التى تمكن المواطن العادى من معرفة ما يجرى حتى فى بيت رئيس الوزراء. بما يعنى أنه لا يتابع فقط المجريات السياسية، ولكنه يتابع أيضا تصرفات أهل الحكم ليطمئن إلى سلوكهم حتى فيما يخص إنفاقهم ومواردهم المالية. ولا غرابة فى ذلك لأن شرعية أهل الحكم مستمدة هناك من رضاء المواطن الذى صوت لهم فى الانتخابات، فضلا عن أن الراتب الذى يتقاضاه رئيس الحكومة وزملاؤه مدفوع من حصيلة الضرائب التى يدفعها الناس. ذكرنى الخبر بالقصة التى رويتها من قبل نقلا عن زميلتنا الأستاذة إنجى رشدى التى عملت بالصحافة فى المرحلة الملكية، وشهدت الزمن الذى كانت فيه الأميرات يدفعن بثيابهن التى يظهرن بها إلى خياط متخصص بالقصر الملكى، لكى يدخل عليها بعض التعديلات، بما يسمح باستخدام الثوب أكثر من مرة، وكأنه ثوب جديد. ذلك أنه لم يكن بمقدور الأميرات شراء ثياب خاصة لكل مناسبة، لأن المخصصات الملكية كانت محددة، وكان هناك مجلس نيابى يراقب ويحاسب على التجاوزات المالية. لا أحد يستطيع أن ينسى فى هذا السياق واقعة الخليفة عمر بن الخطاب الذى ظهر بثوب جديد ذات مرة، فاستوقفه نفر من المسلمين وسألوه من أين أتى بهذا الثوب؟، فاضطر إلى استدعاء ابنه عبدالله لكى يوضح للسائلين الحقيقة فيما التبس عليهم. حين نقارن ذلك كله بما نشهده فى واقعنا، فإنه يغدو نوعا من الأساطير والعجائب. ذلك أننا لم نعد نحلم بأن نسأل ولى الأمر عن أوجه إنفاقه أو موارده أو ممتلكاته ومصدر ثروته. ولم يعد يجرؤ أحد على الاستفسار عن مظاهر الثراء الفاحش التى تطفح بها حياة أسرته، ويلمح الناس آثارها فيما ينشر من صور يومية. لكن ذلك لا يوقف سيل الشائعات التى تتحدث عن الحسابات المفتوحة وسفرات التسوق الباذخة غير المعلنة والفواتير ذات الأرقام الفلكية. وغنى عن البيان أن ما خفى كان أعظم. لا غرابة فى ذلك، لأن أولى الأمر حين يكونون فوق المساءلة والحساب فإن استباحة الوطن تغدو أمرا طبيعيا، بناسه ومقدراته وثروته. وذلك كله لن ينصلح أمره ما لم يسترد الشعب سلطته ويصبح من حقه أن يشارك ويحاسب ويعرف أين وكيف تنفق أمواله؟.