«..فى نقدنا للمنهج السلفى واختلافنا معه فى كثير من الاتجاهات والنتائج، لا ننكر أن السلف كانوا من أعظم الرجال فى عصورهم، كما لا ننكر أن المنهج نفسه كان متفقا مع عصره، ولم يكن يوجه إليه أى نقد وقتئذ. إن مضمون نقدنا هو أن سلامة المنهج عندما ظهر منذ عشرة قرون لا يقتضى بالضرورة سلامته فى الفترة المعاصرة لتباين الأوضاع تباينا جذريا، فلكل عصر مشاكله وقضايا وطرقه الخاصة فى معالجة هذه المشاكل والقضايا. فالاختلاف لا يقتصر على نوعية القضايا، ولكن أيضا على طريقة حلها، وإن الحل لن يكون فيما قدره السلف، ولكن فى القرآن نفسه، ومباشرة، لأنه هو وهو وحده الذى يتسع لتحديات العصر وينتصر عليها. وهذا هو معنى «العودة إلى القرآن». كلمات أوردها الشيخ جمال البنا تشكل المحور الأساسى لكتابه «العودة إلى القرآن» الذى صدر عن دار الشروق، عنونه بالعودة إلى القرآن وكأن الناس ابتعدت عن القرآن، وهو ما يوضحه البنا فى بابه الأول «الانصراف عن القرآن»، أفكار الكتاب شائكة كأفكار البنا ومثيرة للجدل مما يؤكد أن الكتاب فى حاجة لمناقشة كاتبه. سألته لماذا عنونت كتابك ب«العودة إلى القرآن»؟ فقال: «لأنى قصدت أن الناس تركوا القرآن الكريم وتمسكوا بالمذاهب الفقهية، واعتبروها دون قصد مكملة للقرآن، وهذا خلط وضحته فى الكتاب، ومنبع هذا الخلط أن معظم المسلمين يقرأون القرآن الكريم عن طريق المفسرين، والقرآن يصلح لكل زمان ومكان، أما كلام المفسرين أو المذاهب لا تصلح لكل زمان ومكان، لذلك كتبت العودة إلى القرآن دون الالتزام بكلام المفسرين». هل يعنى هذا أنك تريد إلغاء التفسير؟ فقال البنا: «السادة المفسرون لم يأتوا من تلقاء أنفسهم بالتفسير، لكنهم نقلوه من التفاسير المعتمدة السابقة عليهم فمسئوليتهم مسئولية ناقل مقلد ينقل حرفيا، ويأخذ كلام السابقين كأمر مقرر لا نقاش ولا تفكير فيه، لكن المفسرين الأوائل وإن كانوا فى مثل قامة الطبرى والقرطبى وابن كثير، عندما قدموا لنا تفسيراتهم ارتكبوا دون أن يعلموا إثما عظيما؛ لأنهم قوَّلوا القرآن ما لم يقله». ولكن يا شيخ جمال بهذا الكلام تريد أن تلغى التفاسير، وهذا أمر خطير ويثير الجدل.. فأجاب: «إن القرآن كلام الله الذى لا يمكن أن يحاكيه أو يصل إليه كلام أناس يغلب عليهم القصور البشرى، والتفسير الوحيد المقبول ما يمكن أن يقدمه الرسول، والرسول لم يقدم تفسيرا إلا لما يقارب 29 آية تقريبا، ومع هذا فلا يمكن أن نقبلها تماما، لأنها كلها جاءت عن طريق أحاديث آحاد لا يمكن القطع يقينا بها، وبالتالى فلا يمكن تطبيقها على القرآن الذى بين للرسول ما يقوله تفسيرا له فى الآيات التى تبدأ «يسألونك» ثم تستأنف «قل»، وهى حالات معدودة ومعروفة. وأضاف البنا أنه آن الأوان للتحرر من تأثير المفسرين بدءا من ابن عباس حتى سيد قطب، فكلها افتئات على القرآن، إننا إذا أسلمنا قلوبنا للقرآن، فسيهدى بصيرتنا للتى هى أقوم إذا انغلق علينا معنى، فليس كل واحد مكلف بأن يعرف كل ما جاء بين دفتى المصحف، فالصحابة أنفسهم ما كانوا يحفظون إلا سورا معدودة، وسيقول البعض إننا لن نستطيع فهم القرآن إلا عن طريق التفاسير، والتفاسير لا غناء عنها وهى تتطلب معرفة اللغة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ومعرفة أسباب النزول إلخ، وما لم يكن المفسر يلم بهذا فلا يمكن أن يفسر القرآن، وسيقولون إن الأوائل كالصحابة والتابعين أكثر معرفة منا لصحة ألسنتهم ولصحبتهم للرسول، ونقول لهؤلاء هذا نوع من الكسل الفكرى والاستخذاء أمام السابقين، وهو أمر مفهوم، فبعد ألف سنة من إغلاق باب الاجتهاد فشلت عقول المسلمين، وآن الأوان للتخلص من ذلك، ولدينا من وسائل الثقافة والمعرفة ما لم يكن «يحلم» الأوائل به فنحن أقدر منهم على الفهم، وعلى كل حال فإننا إذا حاولنا وأخطأنا التوفيق فلن نحرم ثواب المجتهد، وهو بالطبع أفضل من أن نسلم بما حشيت به كتب التفاسير من روايات لا قيمة لها إلا أنها صدرت عن الأئمة الأعلام، إن إعمال الذهن فى حد ذاته هو ما قصده القرآن عندما حثنا على «تدبر» القرآن والتفكر فيه.