انتبه سليمان إلى أن عرقه يتقطر فوق ظله على الأرض. توقف كأنه يستدعى شيئا ما، ثم أخذ يغنى: «ظلى روياااان.. وأنا عطشاااان». جاءه صوت رفيقه عبر الحائط من الغرفة المجاورة: «يا فرحتها اللى جابتك يا واد». هكذا يقتلان الوقت ويهربان من ضغط العمل. سليمان وناصر لا يعرفان لهما مهنة محددة، بل يعملان «أى حاجة. نشيل نقلة رملة أو شيلة طوب للدور العاشر. نهدّ حيطة أو سقف. لو حكمت نشتغل دادة». قبل أيام كان سليمان ورفيقه جالسين فى ميدان السيدة عائشة، أسفل الكوبرى، ينتظران من يطلبهما للعمل. أمامهما معداتهما البسيطة: أجنة وعتلة وحجّارى ومرزبة صغيرة. الساعة تجاوزت الحادية عشرة صباحا ولا عمل. طوال الأسبوع لم يعمل سليمان غير يوم واحد «الأسبوع ده طلع لى 60 جنيه، صرفت 30، رضا». ناصر وسليمان اثنان من جيش التراحيل وعمال اليومية الضخم على أرض مصر. ولا توجد جهة اهتمت بإحصائهم، أو رعايتهم ضد المرض والبطالة، إلى أن تحدثت عنهم وزارة المالية مؤخرا، عندما وعدت بمد المظلة التأمينية لتشمل 18 مليون مواطن يكسبون قوتهم على طريقة ناصر وسليمان. التقيا فى قطار الصعيد الذى «لو حد شاور له يقف». الأول ركب من سوهاج، واستقله الثانى من المنيا، وخلال الطريق تعارفا. أحب سليمان أن يسدى لصديقه الجديد خدمة، فوفر عليه عناء البحث عن مكان للسكن: «الأوضة مش واسعة. بس مش هتضيق بيك يا ناصر. تعالى». يسكن سليمان مع ثلاثة آخرين فى غرفة بمنطقة السيدة عيشة. يدفعون لها 150 جنيها إيجارا شهريا. الآن، ومع قدوم وافد جديد إليهم، صاروا خمسة يدفع الواحد منهم ثلاثين جنيها فى الشهر «يعنى جنيه فى الليلة». ومنذ اليوم الأول للرفيق ناصر معهم صار كواحد منهم. تبرع له أحدهم بورقة كارتون، فرش عليها بطانيته القديمة. وهكذا صار له فراش مستقل. وقت العشاء، يلم سليمان فراشه، ويفرش بدلا منه ورقة كارتون أخرى وصفحة من جريدة. «أحلى حاجة فى الأهرام ان ورقها كتير». بينما «بلدياته» عبدالباسط يضع عليها طبق الفول وكومة الخبز. «والله بنقعد 3 شهور أكلنا فول وعيش. أحيانا بندلع نفسنا ونجيب طعمية مع الفول». أكل الفول والعيش البلدى كوجبة وحيدة لفترة طويلة «خطر جدا»، بتعبير رابحة أباظة، خبيرة التغذية، وقد يؤدى إلى الإصابة بأمراض الأنيميا والسكر وضغط الدم. تقترح الخبيرة على من لا يجد ثمن وجبة مكلفة أن يجتهد قدر الإمكان للحصول على جبنة قريش أو طبق سلطة مع ليمونة، أو حتى طبق كشرى مع ثمرتى طماطم وخيار وقليل من الخس، للحفاظ على الحد الأدنى من الصحة. فى السادسة صباحا يستيقظ الجميع. الكل يصلى ثم يخرجون إلى ميدان السيدة عائشة من جديد. قد يمتد بهم الانتظار حتى الثالثة عصرا. لكن لا أحد يمل أو ينصرف. «الزبون باشا. ييجى وقت ما ييجى». يحذر سليمان رفيقه ناصر: «أول ما تشوف عربية البوكس تجرى. الأسبوع اللى فات لمونا كلنا وخلونا نبنى لهم حيطة فى القسم. يخلونا نشتغل لهم وياخدوا تمن التجديدات من الحكومة». يرفض سليمان ورفاقه أن يعملوا كأنفار فى شركة مقاولات. فهى لن توفر لهم دخلا ثابتا. وستعطيهم اليومية 25 جنيها فقط، فى حين أن الواحد منهم حاليا قد تصل يوميته لستين جنيها وربما أكثر. والأهم «لا فيها تعيين ولا تأمينات.. طب نبقى ليه تحت رحمة حد؟». وزير المالية أعلن قبل أكثر من أسبوع أن وزارته ستمد مظلة التأمينات لتشمل فئات جديدة كالباعة الجائلين وعمال التراحيل والصيادين وصغار المزارعين. وقال محمد معيط مساعد وزير المالية للمعاشات والتأمينات، إن القانون سيبدأ العمل به فى أول يناير 2012، ومازالت الوزارة تعمل على اللائحة التنفيذية له. القانون الجديد سيكفل لسليمان أن يتقدم بطلب للانضمام إلى المظلة التأمينية، ويدفع مبلغا لم تحدده وزارة المالية بعد كل ثلاثة أشهر «علشان نعرف إنه لسه على قيد الحياة وإنه جاد.. وبما إن الناس دى احنا مش هنعرف نوصل لها. لازم هى اللى تجيلك فضرورى تخليه يحس إن التأمين لمصلحته هو وأسرته»، كما قال معيط فى حواره مع «الشروق»، وبهذا يتم إنشاء ملف تأمينى له، ويكون من حقه الحصول على 124 جنيها هى أساسى المعاش، بالإضافة إلى معاشه المستحق له مما كان يدفعه كقسط ربع سنوى. «حد يصدق بطرس غالى؟ ده كل سنة يقول إن الميزانية فيها عجز، وما يعرفش إن كيلو السكر بخمسة جنيه واللحمة بخمسين». يقول أحدهم معبرا عن عدم الارتياح من كل ما يجرى، فزميلهم فى الغرفة فتحى الطويل، 55 عاما، أخبرهم قبل قليل أن ابنه مصمم على ترك المدرسة واللحاق بوالده فى متاهة السيدة عائشة.