لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعى لأجهزة الكمبيوتر والروبوتات من قبيل الخيال العلمى أو الشىء الذى ينتظر حدوثه فى المستقبل البعيد، وإنما بات واقعا يوميا تعمل العديد من المختبرات فى العالم على تطويره وتحسينه بشكل دائم، وكلما زادت الصعوبة التى تواجه العلماء فى تطوير الذكاء الاصطناعى، برزت أمام أعينهم الإمكانات غير المحدودة التى يفتحها هذا المجال من العلوم أمام البشرية، كما تطرح أسئلة عديدة حول تأثير هذه التقنية على شكل الحياة مستقبلا، وتأثيرها إيجابا وسلبا على البشر العاديين. واقع بدأ فى الظهور وعلى الرغم من أن الفكرة لم تظهر حتى الآن فى حياتنا بالشكل والكفاءة اللذين يتوقعهما العلماء القائمون عليها، فإن الذكاء الاصطناعى بدأ بالفعل فى الظهور فى بعض التطبيقات البسيطة التى يمارسها البشر فى حياتهم اليومية، فتجد العديد من المستخدمين للتليفونات المحمولة يتحدثون إلى تليفوناتهم للبحث عن المعلومات أو إجراء المكالمات بدلا من استخدام اليدين، وحاليا تستجيب محركات البحث الخاصة بشركتى جوجل ومايكروسوفت إلى الأوامر الصوتية وتقوم بالبحث عما ينطقه المستخدم بشكل آلى، وعدد متزايد من قائدى السيارات أصبحوا يأمرون سياراتهم الحديثة بالبحث عن الاتجاهات أو تشغيل الموسيقى بدلا من القيام بذلك بشكل يدوى. وقد تضاعف عدد الأطباء الأمريكيين الذين يستخدمون برامج التمييز الصوتى لتسجيل الحالات المرضية والتاريخ الطبى للمرضى ومواعيد الزيارات أكثر من ثلاثة أضعاف خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، حيث وصل عددهم حاليا إلى ما يزيد على 150 ألف طبيب يعتمدون بشكل كامل على برامج التمييز الصوتى، ويعترفون بزيادة الجودة إلى درجة كبيرة للغاية فى تلك البرامج فيما يتعلق بالتعرف على المصطلحات الطبية المنطوقة وترجمتها إلى كلمات مكتوبة بشكل صحيح، وإن كانت المشكلة لديهم تكمن فى ترجمة الكلام العادى المنطوق الذى لا يكون عبارة عن مصطلحات طبية، حيث يشكو عدد من الأطباء من الأخطاء التى تحدث فى التعرف على الكلام غير الطبى الذى يكون فى التشخيص. أبحاث واختبارات وتجارب كما يتم اختبار تقنية الترجمة الفورية للكلام المنطوق من لغة إلى أخرى عبر قسم مشاريع الأبحاث المتقدمة فى وكالة الدفاع الأمريكية، ويتم استخدامها بالفعل وتزويد القوات الأمريكية فى العراق وأفغانستان بأجهزة الترجمة الفورية للكلام المنطوق، التى أثبتت فعاليتها حتى الآن فى التعرف على الجمل البسيطة وترجمتها بشكل ملائم، وإن كانت لم تخل هذه التقنية من بعض الأخطاء التى تنتج من عدم قدرة الأجهزة حتى الآن على التعرف على سياق الكلام، مثلما حدث عندما وجه أحد الجنود الأمريكيين سؤاله إلى مواطن عراقى عما تحمله شاحنته، فأجابه المواطن بأن الشاحنة تحمل الطماطم، فى حين ترجم الجهاز أن الشاحنة حامل فى الطماطم، فالجهاز ترجم carrying tomatoes إلى pregnant tomatoes. وعلى الرغم من أن تقنية التعرف الصوتى على الكلمات مازالت حاليا بعيدة عن الجودة الكبيرة التى يطلبها العلماء منها، فإنها جيدة بدرجة كافية لتبدأ العمل فى العديد من المجالات، كمراكز تلقى الاتصالات على سبيل المثال، فحاليا يوشك العلماء على الانتهاء من برامج للتعرف والتمييز الصوتى قادرة على التعرف على جمل مرتبكة وغير منظمة من عميل غير راض عن إحدى الخدمات أو المنتجات، وتحويل المتصل إلى الموظف المسئول عن حل مشكلته التى تعرف عليها البرنامج، كما أن هذه البرامج تستطيع تحديد نسبة الغضب فى صوت المتصل، وتتفاعل مع ذلك بطريقة مناسبة، وعادة ما تكون هذه الطريقة هى تحويله إلى أحد المديرين فى الشركة. علم المستقبل ووفقا لإريك هورفيتز العالم المتخصص فى مجال الذكاء الاصطناعى بأحد معامل شركة مايكروسوفت، فإنه «سيكون من العادى جدا بالنسبة لأبنائنا الصغار وأحفادنا أن يتحدثوا إلى آلات فى المستقبل، وأن تقوم هذه الآلات بالاستماع إليهم والرد عليهم بشكل تلقائى ومباشر، بل وسيتعجب الأطفال القادمون من عدم إمكانية البشر من التحدث مع الآلات التى تتفاعل معهم وترد عليهم قبل ذلك»، وبالفعل يطبق إريك حاليا هذه التقنية الجديدة بداخل مكتبه فى مايكروسوفت، فبمجرد دخول الضيف إلى ساحة الانتظار فى المكتب يقابله وجه امرأة على شاشة الكمبيوتر يتحدث معه ويقوم بتحيته وسؤاله عما إذا كان يبحث عن إريك. وبخلف الوجه الأنثوى المستقر على شاشة الكمبيوتر توجد ترسانة من التقنيات الجديدة فى عالم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعى، مثل تمييز الأصوات وفهم معانى الكلمات والجمل حتى يستطيع الجهاز الإجابة بالشكل الملائم، وتقنية التعرف على الأشكال المختلفة وتمييزها وحفظها ومراجعتها مع سجل كبير لصور الأشخاص التى يتعامل معهم العالم، حتى إن الجهاز يستطيع تحية الداخل إلى المكتب باسمه إن كان مخزنا لديه فى ذاكرة الصور، وفوق كل ذلك توجد تقنية التعلم الذاتى للجهاز، وإمكانية تصحيح أى خطأ يقع فيه وحفظه فى ذاكرته حتى لا يقع فيه مرة ثانية فى المستقبل. كما يحتوى الجهاز على جميع المعلومات الخاصة بالمواعيد المتعلقة بصاحب المكتب، وأنماط العمل الخاصة به، ويقوم بتتبع جميع نشاطات إريك على جهاز الكمبيوتر، كاستخدام البرامج، وكتابة الملفات، وكتابة رسائل البريد الإليكترونى، وتصفح الإنترنت، ويقوم بتخزين المدد الزمنية التى استغرقها كل نشاط بشكل آلى لتساعده فى التوقع بأنماط العمل المستقبلية، بل إنه يقوم أيضا بمتابعة المكالمات الهاتفية لإريك، ويقوم بقياسها استنادا على مدتها الزمنية، وعلى شخصية المتصل، والساعة التى تم فيها الاتصال فى اليوم، واليوم الذى حدث فيه الاتصال فى الأسبوع، ليستطيع بناء على كل هذه المعلومات أن يتنبأ بموعد انتهاء مكالمة جارية يسأله الضيف متى تنتهى، فيجيب بعد خمس أو ست دقائق على الأرجح. أيضا قام إريك بتصميم برنامج الذكاء الاصطناعى فى الجهاز ليستطيع تحديد درجات الأولوية الخاصة بالاجتماعات، فبعد أن يقوم الجهاز بالتعرف على الشخص القادم عن طريق ذاكرة الصور المخزنة عليه لمعارف وزملاء وطلبة إريك، ومقارنة أهمية الشخص الآتى بأهمية الاجتماع الحالى الذى يعقده إريك، يستطيع أن يسمح للقادم بالدخول ومقاطعة الاجتماع أو يخبره بالانتظار حتى النهاية، فمثلا جلسة بحثية مع أحد الباحثين تتطلب تركيزا كبيرا هى الأكثر أولوية فى عدم المقاطعة من اجتماع مع أحد الموظفين الأقل فى الدرجة الوظيفية. الخطر المجتمعى كبير ولأن المجال غير محدود أمام إمكانية إقحام الذكاء الاصطناعى فى العديد من المهام والوظائف البسيطة التى لا تتطلب قدرا كبيرا من الدقة أو المهارة، وهو ما يعكف على دراسته وتجربته حاليا فريق من أكبر العلماء فى الولاياتالمتحدة، فالمخاطر أيضا من الاستغناء عن العنصر البشرى تشكل هاجسا مستمرا لأصحاب الوظائف البسيطة وللباحثين الاجتماعيين، الذين يحظرون بشكل مطرد من مخاطر التوسع فى استخدام الآلات ذات الذكاء الاصطناعى بديلا عن البشر، وينبهون إلى أن مجال الذكاء الاصطناعى سيغير من التركيبة الاجتماعية فى العالم، ومن شكل الحياة على الكرة الأرضية بشكل عام، فى حين يدافع العلماء عن أبحاثهم وتجاربهم باعتبارها تفتح الباب أمام إمكانات غير معقولة أو محدودة للتعلم واكتساب المهارات بالنسبة للآلات، وبالنسبة لتطور البشرية أيضا.