الجدل بشأن العلاقة بين الدين والدولة رهن بالتاريخ وتأثير الغرب المستعمر. منذ 90 عاما مضت، تأسس فى مصر حزب سياسى جديد، هو حزب الوفد. وقام الحزب العلمانى، كما عُرف فى البداية، تحت شعار: «الدين لله، والوطن للجميع». ولم يعارض الحزب العلمانى الدين فى حد ذاته، بل كان يعترض على استغلال ملك مصر للدين لتأكيد سلطته. واليوم، لا يتصور أحد فى مصر أو فى أى بلد عربى آخر أمرا كهذا، وسيكون من الحماقة أن يعلن أحد قيام حزب سياسى بهذا الاسم أو بهذا البرنامج. وخلال العقود الأخيرة، أصبحت العلمانية كلمة قذرة، وأُحكم إغلاق باب الجدل تماما بشأن فصل الدين عن الدولة وهو شرط ضرورى إذا ما كان للحرية أن تزدهر فى الشرق الأوسط. وكانت أوروبا قد شهدت، بالطبع، صراعا بين الدولة والكنيسة، تأجج لقرون. وعلى الرغم من أنه لا تزال هناك بقايا للروابط القديمة من يجلس على عرش بريطانيا هو أيضا رئيس الكنيسة الإنجيليكانية، على سبيل المثال وجيوب للمقاومة هنا وهناك، فقد استقر الأمر بالحسم لصالح العلمانية. على أننا نرى وضعا معكوسا فيما يتصل بالإسلام. وفى البلاد العربية، كما كنت قد أشرت من قبل، فإن الصلة بين الدولة والدين مقبولة فى كل مكان تقريبا. وهناك خلافات فى الرأى حول مقدار هذه الصلة، لكن المبدأ نفسه نادرا ما يطرح للنقاش. وأحد الأسباب، كما يرى هيرمان دو لى، هو أن التاريخ لم يقد المسلمين إلى الربط بين العلمانية والحرية، كما يفعل الأوروبيون عادة، وإنما ربطوا بينها وبين الاستعمار والهيمنة الأجنبية: نبذ العلمانية هذه الأيام، على مستوى الخطاب المسلم السائد على الأقل، يضرب بجذوره التاريخية فى الاستعمار الغربى والإمبريالية فى القرنين التاسع عشر والعشرين. فالمسلمون فى ذلك الوقت واجهوا العلمنة السياسية المفروضة من جانب القوى الأوروبية. وفى البلاد الأوروبية نفسها كانت للعلمانية آثار تحريرية (تحرير المجتمع وعقل الإنسان من القيود العقائدية والمؤسسية للكنيسة). وعلى عكس هذا، تعززت العلمانية فى المستعمرات والمحميات كسلاح عقائدى فى وجه الإسلام بهدف قمع التطلعات القومية أو السياسية للطوائف المسلمة. وكانت علمنة كمال الدين أتاتورك النشطة فى العشرينيات عاملا آخر. وكان لإلغائه الخلافة الإسلامية، التى كانت تركيا مقرها آنذاك، فى عام 1924، أثر الصدمة فى العالم الإسلامى، وادعى العديد من الزعماء العرب أحقيتهم فى اللقب ومن بينهم فؤاد الأول ملك مصر. لكن، فى 1925، أثار أحد القضاة الشرعيين المصريين، هو الدكتور على عبدالرازق، ضجة بإصداره كتابا بعنوان «الإسلام وأصول الحكم»، يتبنى الفصل البين بين الدين والدولة. وعارض عبدالرازق مساعى الملك لكى يصبح خليفة لكنه صاغ فكرته بعناية، بحيث لا يهاجم العرش المصرى مباشرة: بدلا من القول بأن الملك لا يستحق الخلافة قال إن الخلافة ليست من الإسلام. فلا سند لها فى الدين، على حد قوله، وكانت فاسدة ومخالفة لرسالة النبى. لكن قضية عبدالرازق كانت لها تداعياتها. وقال لأحد مجادليه: إن النقطة الرئيسية فى الكتاب.. هى أن الإسلام لا يقرر نظاما «سياسيا» محددا، ولا هو يفرض على المسلمين نظاما معينا لحكم المسلمين؛ هو يعطينا، بالأحرى، حرية تنظيم الدولة وفقا للأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التى نتواجد فيها، آخذين فى الاعتبار التطور الاجتماعى ومتطلبات العصر. ولتقديمه ما أطلق عليه «نسخة كلاسيكية من الفكر المصرى الليبرالى الحديث»، اتُهم عبدالرازق بالإلحاد وتعرض للهجوم من جانب علماء الأزهر، أقدم جامعات العالم الدينية. وقد جُرد من لقبه الدينى وأُبعد عن منصبه كقاض شرعى. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت «العلمانية» معانى بالغة السلبية فى عقول المسلمين العاديين وهو وضع يرده فوزى النجار، الأستاذ الفخرى بجامعة ولاية ميتشيجان ،إلى نجاح الإسلاميين فى وصم المسلمين الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة بالهرطقة والردة. ومن الحالات المشهورة فى هذا الصدد حالة فرج فودة، العلمانى المعروف الذى سخر من كثير من القادة الإسلاميين فى مصر بشدة. ففى 1992، اتهمته مجموعة من مدرسى الأزهر، الذين شكلوا لجنة لمواجهة «أعوان الشيطان»، بالكفر. وبعد ذلك بخمسة أيام، اغتيل فودة على يد عضوين ينتميان إلى إحدى الجماعات المسلحة، هى الجماعة الإسلامية. وأعلنت جماعة الإخوان المسلمين ترحيبها بمقتله. وأثناء محاكمة قاتليه، قال أحد رجال الأزهر فى المحكمة إن عملهم له ما يبرره بعد أن فشلت السلطات فى محاكمة فودة على تجديفه. أما القضية الملفتة الأخرى فكانت قضية نصر حامد أبوزيد، الذى كان يدرِّس الأدب العربى فى جامعة القاهرة. وكان يناقش، من بين أشياء أخرى، كيف استغل الرؤساء المصريون الخطاب الدينى فى خطاباتهم للظهور على غير حقيقتهم «كيف يبدأ الرئيس خطاباته وينهيها باستشهادات من القرآن، ويقدم نفسه بوصفه المهدى، أو الإمام». وفى 1992، تقدم أبوزيد لشغل إحدى الوظائف الجامعية، ونظرت لجنة أكاديمية فى ثلاثة تقارير عن أعماله. وكان اثنان من التقارير فى صالحه لكن الثالث، الذى أعده أحد الإسلاميين، هو الدكتور عبدالصبور شاهين، شكك فى استقامة معتقدات أبوزيد الدينية وادعى أن بحثه يحوى «إهانات للمعتقدات الإسلامية». ورفضت اللجنة ترقيته بسبعة أصوات مقابل ستة. وقد طارد الإسلاميون، الذين لم يسعدهم هذا، أبوزيد فى المحاكم ونجحوا فى الحصول على حكم بالتفريق بينه وبين زوجته باعتباره مرتدا. وخوفا على سلامته، رحل أبوزيد عن البلاد. ويجىء انهيار العلمانية المسلمة كنتيجة لصعود الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية العامة التى تجتاح الشرق الأوسط منذ ستينيات القرن الماضى. وتمثلت اللحظة الحاسمة فى الهزيمة المذلة على يد إسرائيل فى 1967 التى أثرت فى مصداقية القومية العربية، وهى حركة علمانية نسبيا. ثم جاءت الثورة الإيرانية، وانسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان بفضل المجاهدين، لتؤكد الاعتقاد بأن الله يقف إلى جانب المسلمين، وأنهم لا يقهرون وهى فكرة تعززت فيما بعد بانسحاب إسرائيل من لبنان 2000 واعتداءات إسرائيل العقيمة على لبنان فى صيف 2006 وغزة فى وقت سابق من هذا العام. ويضاعف من هذا شعور سائد ولا أساس له بأن المسلمين محاصرون من الغرب. ويكون الرد، فى كثير من الحالات هو أنهم هم الذين يختارون التقوقع، طلبا للراحة واليقين اللذين يوفرهما الدين مصحوبا برفض ما يعتبر، بصورة خاطئة فى الكثير من الحالات، أفكارا وقيما «غربية»، بما فى ذلك العلمانية. لكل هذه الأسباب فإن من العسير اليوم الخوض فى الجدل الحساس حول الدولة والدين فى المجتمعات المسلمة. لكن إذا أرادت هذه المجتمعات الوصول إلى نظم سياسية، يشارك فيها الناس بحرية كمواطنين ناضجين وفاعلين، فلابد من فتح باب الحوار مرة أخرى. والسؤال هو: كيف؟ من الهيرالد تريبيون New York Times Syndication