لا ينسى الحاج محمد شاكر هذا المشهد أبدا: فى سنة 1992كان فى الغيط، وفوجئ بمن يناديه، ويطلب منه التوقيع على ورق. سأله بلهفة: دى أوراق إيه؟ «قال لى الرجل إنه مندوب هيئة الأوقاف، وأن الأوراق تمنحنى الحق فى استئجار الأرض. صرخت فى وجهه: دى أرضى أنا، وأنا زارعها، إيجار إيه؟». فى قرية كفر الشرفاء مركز القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية، يعيش الحاج محمد شاكر مع زوجته وأبنائه التسعة. كان مسافرا إلى اليمن وعاد إلى قريته سنة 1961، ليخير بين وظيفة أو قطعة أرض من هيئة الإصلاح الزراعى، فاختار الأرض لأنه من الريف أساسا، وعلى دراية بطرق الزراعة. اشترى الحاج محمد على فدانين، بالقسط على 40 سنة، حيث كان يدفع كل سنة 36 جنيها، ولم تمنحه الهيئة عقد البيع لأنه لم يسدد ثمنها بعد. لا يمكن لأحد إخراج الفلاح إذا كان لديه عقد تمليك م.جمعة جبريل رئيس الهيئة قال إن قانون رفع الحراسات لسنة 1974كان تاريخا فاصلا بين فترتين مختلفتين. «حصل الملاك الأصليون على أرضهم مرة أخرى، فمن كان مستأجرا للأرض تركنا التصرف فى الأمر بينه وبين مالك الأرض، ولم يعد لنا دخل بالقضية، فقد يتم حلها بشكل ودى، وقد يصر المالك على إخراج الفلاحين، وهذا من حقه لأنها أرضه، لكن لا شأن للهيئة بالنزاع بينهم، فهو أمر يرجع إلى القضاء للفصل فيه، أما من امتلك من الفلاحين الأرض قبل إقرار القانون فليس من حق أحد إخراجه من أرضه». أما من خرجوا من بعض الأراضى فهم مستأجرون، وقامت الدولة بتعويضهم بأرض أخرى قريبة من محل إقامتهم. لكن واقعة الحاج محمد تبدو غريبة فى هذا السياق، فقد اشترى الأرض، لكنه معرض للطرد منها. رفض الحاج التوقيع على أوراق هيئة الأوقاف، وأسرع إلى مقر الهيئة بالقاهرة حتى يفهم الموضوع، وكذلك يسدد القسط السنوى للأرض، فقالوا له: «أرضك أصبحت تبع هيئة الأوقاف، والقسط مش هتدفعه عندنا»، توجه إلى هيئة الأوقاف فأخبروه بأن هيئة الإصلاح الزراعى باعت الأرض لهيئة الأوقاف، وأن عليه إذا أراد البقاء فى الأرض أن يدفع إيجارا سنويا قيمته 4000 جنيه للفدان»، إزاى يبيعوها وهى أرضى، وكان باقى 9 سنين واخلص قسطها، وفين العقد اللى يثبت ملكية هيئة الأوقاف للأرض». قالوا له إنها بيعت بشكل مكتبى أى من مكتب رئيس هيئة الإصلاح إلى مكتب رئيس هيئة الأوقاف ولا عقود فى عملية البيع هذه. أن الإصلاح الزراعى، مساحة الأرض التابعة للإصلاح الزراعى تبلغ 900 ألف فدان، وبشكل عام فإن نسبة 80% من فلاحى الإصلاح الزراعى قد تملكوا أرضهم، ولم يبق سوى نسبة 20% من المستأجرين، يدفعون إيجارا سنويا للهيئة يتم تقديره حسب جودة الأرض ومساحتها مقابل زراعتها، ولم يحدث أبدا أن قامت الهيئة بمساندة الإقطاعيين، ومنحهم أراضى بيعت للفلاحين من قبل». يعيش الحاج محمد من الأرض ويستعد للدفاع عنها حتى الموت يفضل الحاج أن يزرع أرضه بالبرسيم، لأنه كما قال: «محصوله بيتباع وكمان ينفع كأكل للبهايم»، ويبدأ زراعته من شهر سبتمبر إلى شهر مايو، أما باقى شهور السنة فيزرعها بالذرة أو البطاطس، حتى جاءه مندوب الأوقاف. لم يصدق عم محمد أذنيه، وذهب إلى أقرب محام لكى يتولى قضيته، ويفهم ما حدث، فعلم المحامى أن هيئة الإصلاح الزراعى باعت الأراضى، التى لم تسدد أقساطها بالكامل لهيئة الأوقاف بحجة أنها كانت تابعة للأوقاف قبل قانون الإصلاح الزراعى سنة 1952، وأن ما حدث هو مجرد استرداد للأرض. أسرع محامى الحاج محمد برفع قضية على هيئة الإصلاح الزراعى، وأصبح الحاج محمد يتردد على المحكمة كل عدة أشهر طوال هذه السنوات، ولم يحصل على شىء، وما زالت القضية فى محكمة شبرا حتى الآن، لكن الهيئة لم تتركه فى حاله طوال هذه المدة، «كل 15 أو 20 يوما نلاقى البوليس داخل علينا فى نص الليل، والبيت كله نايم علشان يأخذونى معاهم، لما ما يعرفوش يدخلوا بيكسروا الباب، وسجنونى أكتر من مرة، أخرها فى رمضان إلى فات، حبسونى شهر، وكانوا بيضربونى ويقولوا لى مش راضى تسيب الأرض ليه، أقولهم دى أرضى، ومش هطلع منها إلا بالموت». كبر أبناء هذا الفلاح، وتزوج بعضهم، وصار عنده أحفاد، كلهم يعيشون معه فى نفس البيت، ولما ضاق عليهم المكان، قرر أن يبنى بيتا جديدا «بنيت بيت جديد، فى آخر الأرض، يكفينى أنا وعيالى الصغيرين واللى اتجوزوا كمان، وسقفته بالحطب، وما عملتوش جوه البلد، علشان لما ييجوا يخرجونى يبقى على جثتى، لأنى هاروح فين، أنا وأولادى ما لناش غير ربنا والأرض دى، ولو مشينا منها مش هنلاقى نأكل».