قس بالكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة بمِصر وباحث في علاقة اللاهوت بالقضايا العامة في خضمّ التصعيد السياسي والعسكري في فلسطين، عاد إلى الواجهة الإعلاميّة خطاب يربط بين الإنجيل والمسيحيّة من جهة، وبين الصهيونيّة ودعم الاحتلال من جهة أخرى. هذا الربط لا يقوم فقط على موقف سياسي، بل على حالة من الالتباس العميق في المصطلحات، حيث تُخلط مفاهيم لاهوتيّة وتاريخيّة متباينة، ويُتعامل معها وكأنها كيان واحد متجانس. هذا المقال لا يسعى إلى الدفاع عن المسيحيّة ولا إلى تبرئة أحد، بل إلى تفكيك المفاهيم ووضع كل مصطلح في سياقه، لأن الخلط المعرفي في هذه القضيّة لا يضر المسيحيّين وحدهم، بل يضر الوعي العام والنقاش الأخلاقي حول العدالة والظلم. كلمة Evangelical في أصلها تعود إلى الكلمة اليونانيّة Evangelion، أي "الخبر السار" أو "البشارة". تاريخيًّا ولاهوتيًّا، كانت تشير إلى توجّه مسيحيّ يركّز على مركزيّة الكتاب المقدّس، والخلاص بالإيمان بالمسيح، وأهميّة التجديد الروحي. غير أن هذا المعنى اللاهوتي، مع مرور الوقت، اكتسب في السياق الأمريكي تحديدًا أبعادًا ثقافيّة وسياسيّة، حتى صار مصطلح Evangelical يُستخدم اليوم في الإعلام بوصفه هويّة سياسيّة أكثر منه توصيفًا كنسيًّا. وهنا يبدأ الإشكال. إذ بات المصطلح الواحد يحمل دلالات متعدّدة، بينما يُقدَّم في الخطاب الإعلامي العربي وكأنه يشير إلى جماعة واحدة ذات موقف موحّد. الحقيقة أن ما يُسمّى بالإنجيليّة في الولاياتالمتحدة ليس تيارًا واحدًا، بل مظلّة واسعة تضم اتجاهات مختلفة، بل ومتعارضة أحيانًا. فهناك ما يُعرف ب Conservative Evangelicals، وهم الأكثر حضورًا في المشهد الإعلامي والسياسي. هذا التيار يرتبط باليمين الديني الأمريكي، ويُعرف بقربه من دوائر صنع القرار، وبخطابه الذي يربط الإيمان بمواقف سياسيّة محدّدة، من بينها الدعم غير المشروط لإسرائيل، واستخدام لغة دينيّة لتفسير الصراع. إلى جانب هذا التيار، توجد اتجاهات تُعرف باسم Reformed Evangelicals أو Confessional Evangelicals، وهي تنتمي إلى تقاليد لاهوتيّة أقدم وأكثر تحفظًا في قراءة النص الكتابي، لكنها أكثر حذرًا في ربط الإيمان بالمشاريع السياسيّة. كثير من أصوات هذا الاتجاه تنتقد بشدّة استخدام النصوص الكتابيّة لتبرير سياسات معاصرة، وترى في هذا التوظيف تشويهًا لرسالة الإنجيل، لا امتدادًا لها. كما توجد تيارات أخرى تُعرف في الأدبيات الغربيّة باسم Progressive Evangelicals أو Left-Leaning Evangelicals، وهي أقل حضورًا في الإعلام، لكنها فاعلة أكاديميًّا وكنسيًّا. هذا الاتجاه يعيد قراءة النصوص المقدّسة من منظور أخلاقي يركّز على العدالة، وحقوق الإنسان، ونقد الاحتلال، ويرفض صراحةً ربط الإيمان المسيحيّ بأي مشروع قومي أو عسكري. اختزال كل هذه الاتجاهات المتنوّعة في صورة واحدة، وتقديمها للرأي العام العربي تحت عنوان "الإنجيليّين"، ليس توصيفًا علميًّا، بل تبسيط مخلّ يخدم الاستقطاب لا الفهم. في هذا السياق، تظهر الصهيونيّة المسيحيّة، وهي ليست تعبيرًا عن المسيحيّة ككل، ولا عن الإنجيل، بل عن قراءة مخصوصة للنصوص الكتابيّة تربط بين وعود إلهيّة قديمة وواقع سياسي معاصر. هذه القراءة تتعامل مع الدولة الحديثة بوصفها تحقيقًا مباشرًا للنص المقدّس، وتتجاهل أن المسيحيّة، في تقليدها اللاهوتي العريض، تقرأ الكتاب المقدّس في ضوء المسيح، لا في ضوء الخرائط والجيوش. ولهذا السبب، رفضت الكنائس التاريخيّة، في الشرق والغرب، هذا النوع من التوظيف الديني للسياسة، واعتبرته خروجًا عن جوهر الإيمان، لا تعبيرًا عنه. ومن هنا يصبح السؤال المطروح إعلاميًّا حول علاقة الإنجيل بالعنف سؤالًا مضلّلًا في حد ذاته. فالمسيح، في تعليمه وسلوكه، رفض بوضوح استخدام القوّة باسم الله، وواجه محاولات تحويل الإيمان إلى أداة صراع، ووبّخ تلاميذه حين أرادوا استدعاء العنف الديني. الإنجيل لا يقدّس الأرض على حساب الإنسان، ولا يمنح غطاءً روحيًّا لاحتلال أو قهر. وفي خضم هذا اللغط، يغيب سؤال جوهري: هل المقصود بمصطلح Evangelical هو الكنيسة الإنجيليّة في مصر؟ والإجابة الواضحة هي: لا. فالكنيسة الإنجيليّة في مصر كنيسة وطنيّة تاريخيّة، نشأت في سياق مختلف تمامًا عن السياق الأمريكي، وتنتمي في جذورها اللاهوتيّة إلى التقليد الإصلاحي، لا إلى الحركات السياسيّة الدينيّة. لم تتشكّل هذه الكنيسة بوصفها جماعة ضغط، ولا حملت يومًا مشروعًا سياسيًّا عابرًا للحدود، بل عاشت دائمًا في نسيج المجتمع المصري، مشاركة في قضاياه، ومتألمة من آلامه. الخلط بين Evangelical كتوصيف أمريكي معاصر، وبين الكنيسة الإنجيليّة في مصر، هو إسقاط غير علمي، يفتقر إلى الحد الأدنى من الدقّة التاريخيّة، ويؤدّي إلى تشويه كنيسة لا علاقة لها بهذا الصراع الأيديولوجي. في النهاية، ما نشهده اليوم ليس صدامًا بين أديان، بل هو استخدام دينيّ لصراع سياسي. وحين تُختزل المسيحيّة في خطاب بعض القساوسة الأمريكيّين، ويُختزل الإنجيل في موقف سياسي، نخسر القدرة على النقاش الأخلاقي الرصين، ويُغيب صوت المسيحيّين العرب الذين يعيشون تحت وطأة هذا الواقع، لا يفسّرونه من خلف الشاشات. إن الحاجة الملحّة اليوم ليست إلى تبادل الاتهامات، بل إلى وعي نقدي يميّز بين الإيمان وتوظيفه، وبين النص وتأويله، وبين الدين حين يكون شهادة للحق، وحين يتحوّل إلى أداة سلطة.