خرجت لأتمشى فى حديقة ألفت مساراتها والتواءاتها. رحلة المشى لا تتجاوز الدقائق العشر من كل يوم مشمس، أى من كل يوم تقريبًا. لم أشك يومًا من خطأ فى إدارة الحديقة وإن لم يتوقف شكى فى تراجع صلابة كاحلى الأيسر. المنظر الخارجى للكاحل لا غبار عليه، لكن الثقة المتبادلة بيننا صارت مع الزمن أقل وفاء وعافية. أمشى كالعادة فى طرق مستقيمة وما أن أصل إلى نهايتها حتى أتوقف لثوانٍ أستعين فيها بالأمل والنية الطيبة على دعم قدرة كاحلى الأيسر على الاستدارة 180 درجة لنخطو معًا أول خطوة فى امتداد آخر للطريق الممهد لمشينا. خطوناها يوميًا بسلام لسنوات صعب أن أحصى عددها. • • • اليوم، وعند استدارة مألوفة فى نهاية امتداد للممشى، لم أتوقف ليستعد كاحلى، أو توقفت ولم ينتبه الكاحل، أو توقفت وانتبه الكاحل ولكن القدر كان فى الانتظار عند الاستدارة ليفاجئ الجميع بما أعد لهذا اليوم. • • • أطلت ابنتى الأكبر على الحديقة من على البعد لترانى مفترشًا جانبًا من أرض الممشى عند نهاية أحد امتداداته. ظهورها فى هذا الوقت المبكر من الصباح أضفى عليه صفة المفاجأة. مفاجأتان فى الحديقة، مفاجأة أن ترانى ابنتى من على البعد وأنا ملقى على الأرض، ومفاجأة أن أرى ابنتى فى هذا الوقت من الصباح فى شكل زيارة غير متوقعة. رأيتها تحبس كلمات جاءت لتعلنها ورأتنى وأنا أشير إلى حارس الحديقة المار فى مسار بعيد كى يأتى لمساعدتها فى صلب عودى حتى أقف مستندًا إلى كاحل أخشى ألا يعمل بالكفاءة المعتادة. • • • همست فى أذنى وهى ترفعنى مع «الجناينى» لأقف، «يا أبى، فقدنا فجر اليوم كبيرًا فى العائلة، جئت لأطمئن إلى أنك سوف تتحمل الصدمة فإذا بى أجدك مفترشًا أرض الممشى وممتثلًا لألم نفسى فظيع يطل من عينيك ومن قبضة يدك الممسكة بيدى تستعين بها للصعود وقوفًا على ساقين؛ أعلنت إحداهما لك ولى عن ضعفها». • • • ما أحلى شموخ النفس وعزتها عند من كانوا ومن هم فى مثل هذه المرحلة من عمرى. أعمم الحكم الذى حكمت به على نفسى لأننى أراه حقًا لكثيرين غيرى، فى العائلة الممتدة وفى دائرة الأصدقاء وفى دوائر الزمالات المتعددة التى انتميت إليها عبر عديد المهن والمهام التى اندمجت فيها أو انسلخت عنها. سقطت ولا عين رأتنى أسقط. تجسدت الواقعة فى مشهد واحد اللاعبون فيه كثر؛ أنا وأحلى ذكريات العمر فى واحدة من أروع ما عشت من لحظات بين أروع من عاشوها معى، وقد تصدروا المشهد ومدته دقائق ولعلها ثوانى لا أكثر. ففى مثل تلك الأيام قبل أربعين عامًا أو ما يزيد، كان يجمعنا مركز الدراسات الذى تشرفت بتأسيسه مستعينا بزملاء من أفاضل أهل العلم والمعرفة. كانت التحديات ضخمة والإرادات أيضا. شهدت ندواتنا اجتماع عقول سجلت أمام صغار الباحثين حقيقة مراحل لم نعشها نحن أصحاب أواسط العمر وما تحته. أذكر تحديدا النقاشات المثيرة التى كانت تجرى بين قادة ماركسيين أسسوا لمرحلة ترويض الشيوعية المصرية، وأقول المصرية فألوانها ومعظم أطيافها كانت مصرية الأصل والتطور، كان هناك الإنسان الرائع خلقًا وسيرة ووضوحًا وعلمًا واسمه محمد سيد أحمد، وكان هناك الصديق والسياسى لطفى الخولى، وكان هناك الزعيم والمعلم محمود أمين العالم وآخرون عديدون أثاروا نقاشات سجلناها ونشرناها. كانت تجربة ممتعة لا يعادلها إلا النقاشات التى دارت فى هذا المركز بين القادة العروبيين وغيرهم من السياسيين. كانت نقاشات حية مفتوحة وصريحة وخالية من كل قيد. • • • أذكر أنه فى مثل هذه الأيام وإلى جانب مائدة النقاش الأساسية وقفت فى كل عام شجرة عيد الميلاد مضاءة بالليل كما بالنهار، وجلست إلى مكاتب متناثرة فتيات، هن من الخريجات الجدد، الساعيات لاقتحام مجتمعات العمل. كم أحببت فيهن تلك الفرحة الحلوة التى كانت دائما فى انتظار الزميل والضيف وابن الجيران الحريص كل عيد على المرور لتهنئتنا بحلول العيد. إن نسيت فلن أنسى الدكتورة نيفين مسعد الرئيسة غير المعينة لجميع ورش العمل والنقاش الدائرة فى المركز ولا الآنسة فيبى يونان السكرتيرة المعينة لجميع الأعمال الفنية والأشغال الإدارية وشئون المطبخ، وأنشطه الشاب الفيومى سامح فى المطبخ كما فى خارجه. ثلاثتهم فى حركة لا تتوقف وفرحة لا تنطفئ طوال أيام العيد، وكل الأيام السابقة على العيد واللاحقة به، ومن حولهم ومن قبلهم ومن بعدهم أذكر همة ونضج سامية ونهاد وضحكة نرمين وحكمة نرمين الأخرى وهذه فقدناها للقدر، أذكر أيضًا طموحات الرائعة نيرفانا وتعليقات الرحيمة مريم الأولى وخفة ظل مريم الثانية، أذكر أيضًا إبداعات بنات ثلاثية لوقا المتنوعة المواهب. هذه الثروة من البشر، مضاف إليها هديل ونانيس وسيف وسلام وآخرون ربما غيبتهم غمامة العمر المتقدم فلم أعد أذكر أسماءهم، هى التى أثمرت فكرة إصدار مجلة شهرية تعنى بعروض الكتب. عشنا العمل نحلم. خرجنا بهؤلاء البشر نعقد مؤتمرات فى دول عربية أخرى، نجند فى هذه الرحلات أصدقاء وزملاء جدد، ونحقق حلمًا بعد حلم. • • • أكتب وقد اقترب اليوم من عصريته، أكتب وفى الصدر قلب طفل يهلل بالنبضات فرحا وبهجة بما تحقق من أحلام على مضى سنوات عمر مديد. أكتب وفى مكان خارج الصدر خزانة ذكريات مشحونة بتفاصيل ساعات وأيام وسنوات من السعادة والرضا، خزانة لم يبخل حارسها بزيادة جرعاتها الحنونة والدافئة كلما أصابنى جزع أو ألم بى ضيق. أكتب وفى مكان ثالث شىء ما يتألم لفراق مصطفى، كبير من كبار العائلة، انتزعه القدر هذا الصباح مخلفًا فراغًا هائلًا. أكتب وفى مكان رابع من يسار هذا الجسد المنكمش قليلًا تقع عضلات لم تنفك تعلن بين اللحظة والأخرى أنها موجوعة نتيجة ارتطامها بالأرض خلال تمشية هذا الصباح. أكتب وفى الحلق غصة مكتومة، هل حقًا أننا اكتشفنا اليوم أننا صرنا معرضين لحملة ضغوط أمريكية وتهديدات وابتزازات صهيونية غير مسبوقة لنوقع اتفاقا لا يحظى بالقبول العام ولا يليق بالمصلحة الوطنية؟ • • • إنه حقًا ليوم ملىء بالمفاجآت والمتناقضات.