فى التاسع من يناير عام 1800، خرج صبى غريب من غابات جنوبفرنسا إلى قرية صغيرة تُدعى سان - سيرنان، كان فى الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، شبه عارٍ، غير قادر على الكلام، ولا يعرف من السلوك الإنسانى أبسط قواعده. لم يكن عدوانيًا، ولكنه كان يتبول حيثما شاء، ويرفض معظم الطعام باستثناء البطاطس، وسرعان ما تبيّن أنه لا يعانى إعاقة جسدية أو عقلية، بل حالة عزلة اجتماعية شبه كاملة؛ أى إنه طفل نشأ بعيدًا عن البشر. لم يُعرف للطفل المتوحش من أفيرون أب أو أم، ولم يتقدم أحد للمطالبة به. ظهر إلى العلن بلا نسب ولا ماضٍ موثق، وكأنه خرج من الطبيعة مباشرة إلى المجتمع، وهو ما منح قضيته تلك القيمة الرمزية الهائلة فى النقاش حول أصل الإنسانية. وشكلت هذه الحكاية العجيبة للطفل الذى ظهر فجأة، والمعروفة تاريخيًا باسم «الطفل المتوحش من أفيرون»، محور كتاب «التجربة المحرمة» للناقد الأدبى الأمريكى روجر شاتوك، وهو كتاب فريد أعيد نشره مؤخرًا هذا العام بعد صدوره الأول عام 1980، ولم يتعامل «شاتوك» مع القصة بوصفها غرابة تاريخية، بل باعتبارها تجربة فكرية كبرى — أى تجربة «محرمة» لأنها لا يمكن أخلاقيًا إجراؤها عمدًا، وهى تتلخص فى سؤال: ماذا يبقى من الإنسان إذا نُزع منه المجتمع؟ فى القرن السابع عشر، كان الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت يرى أن المعرفة فطرية، وأن العقل قادر على إنتاج مبادئه الأساسية حتى فى الفراغ، وبعده بجيل، قال الفيلسوف الإنجليزى جون لوك إن الإنسان يولد «صفحة بيضاء»، وأن التجربة والتنشئة هما ما يكتبان عليها، ولذا فقد جاء الطفل المتوحش، فى مطلع القرن التاسع عشر، كأنه اختبار حى لهذا الخلاف الفلسفى القديم. وعند العثور عليه، بدا الصبى — كما وصف «شاتوك» — إنسانًا فى الهيئة فقط، بينما كل ما عداه أقرب إلى الحيوان، حتى إن بعض معاصريه تساءلوا: لولا وجهه البشرى، ما الذى كان سيميزه عن قرد؟ فلقد بدا عاجزًا عن التفكير، أو عن الربط بين جسده وعقله. ولم يفلح مربوه الأوائل فى التعامل معه، حتى أعلن أحدهم أنه حالة ميئوس منها. وكان الاستثناء هو الطبيب الشاب جان مارك جاسبر إيتار، الذى قرر أن يخوض التجربة حتى نهايتها؛ ففى البداية، أطلق على الصبى اسم «فيكتور»، وقضى خمس سنوات يحاول تعليمه ما يعنيه أن يكون إنسانًا؛ مثل: إدراك الجسد، الانتباه، التمييز الحسى، والارتباط بالآخرين. صحيح أن «فيكتور» لم يتعلم الكلام قط، لكن ما تحقق كان أعمق من اللغة. ووصف «شاتوك»، عبر تقارير «إيتار»، كيف بدأ الطفل يكتشف نفسه لأول مرة؛ فصار ينفر من القذارة، وينتبه لأطرافه، ويتوقف فجأة ليتأمل أصابعه، كأنه يختبر وجوده الجسدى للمرة الأولى، ولم تكن هذه تفاصيل هامشية، بل بدايات وعى بالذات، إحساس أولى بأن تكون حيًا وتصف نفسك. الأهم من ذلك كان إدخال «فيكتور» فى شكل من أشكال الحياة المشتركة؛ فمع وجود امرأة - مدام جران - تقوم بدور أم، وعلاقة مع الطبيب نفسه، منحاه ما يسميه «شاتوك» إحساسًا بالذات بوصفها مرتبطة بذوات أخرى؛ أى إنه لم يعد كائنًا معزولًا، بل شخص داخل شبكة من العلاقات، نقلًا عن صحيفة «الواشنطن بوست». ولم يكن تحوّل «فيكتور» مسألة تربوية فحسب، بل حمل أبعادًا سياسية وفلسفية عميقة؛ فقد أثبت «إيتار»، من خلال تجربته وجهوده فى العمل مع الصبى، قوة الثقافة على انتشال الإنسان من حالة التوحش البدائية ومنحه إنسانيته، وقد ساهمت نتائج تلك التجربة فى تطوير طرق جديدة فى تعليم ذوى الاحتياجات الخاصة ما زالت تستعمل حتى يومنا هذا. ومن هذا الاستنتاج توصّل إلى خلاصة كانت ثورية بمعايير عصره؛ ألا وهى أن التعليم هو كل شىء، فلم يعد الإنسان، فى ضوء هذه التجربة، نتاج الطبيعة وحدها، بل ثمرة ما يتلقاه من رعاية ومعرفة وعلاقات، أى إن الإنسانية ليست مُعطًى جاهزًا، بل مشروع تكاملى يُبنى بالتربية، والرعاية، والتعايش مع الآخرين، وهو استنتاج لا يقل راديكالية اليوم عما كان عليه فى مطلع القرن التاسع عشر. وفى الختام، فإن المثير بشأن هذا الكتاب اللافت ليس تقديم حالة فيكتور كحالة استثنائية، بل العكس تمامًا، حيث إنه كشف أننا جميعًا لا نصبح بشرًا إلابفضل المجتمع. لا أحد يولد إنسانًا كاملًا، ولا أحد يظل إنسانًا من دون جهد ومساندة؛ فالإنسانية، فى جوهرها، فعل جماعى مستمر، لا منحة طبيعية.