فى هذه الأيام بالذات، وفى تونس القلقة والمثيرة فى هذه الأزمنة لشتى أنواع الأسئلة وضروب الحيرة، تتجه أيام قرطاج السينمائية لاختتام دورتها الجديدة، ومعها الموسم المهرجانى الذى شهد، وعلى امتداد الخارطة العربية وبعض التشعبات الجغرافية الأخرى، ما يقرب من عشرين مناسبة مهرجانية تتفاوت فى أهميتها ونجاحاتها، وربما أيضًا فى خيبات الأمل التى تسفر عنها. ولئن كانت الأمور تنتهى فى كل موسم إلى ما يبدو وكأنه حكاية تتكرر بنفس الأفلام ونفس الوجوه ونفس الأحاديث والمخاوف ونفس الوعود والآمال، فإن أهل المهنة ومحبى السينما يعرفون دائمًا أن ثمة مهرجانين على الأقل عرفا كيف يحافظان على رونق ما ولياقة معترف بها، رغم أنهما يكادان أن يكونا الأكثر تقشفًا بين المهرجانات العربية كافة. ونتحدث هنا، بالطبع، عن مهرجان القاهرة الدولى وعن أيام قرطاج للسينما العربية والإفريقية. وحديثنا هو، بالطبع، لمناسبة قرب انتهاء فعاليات دورة قرطاج خلال يومين، ومعها الموسم كله. طبعًا ليست غايتنا هنا أن نرسم جردة لا للموسم كله، ولا لأيام قرطاج. ففى المرحلة المدهشة فى ارتباكها والتى نعيشها، لن يبدو رسم مثل تلك الجردة منصفًا. فحسب المهرجانات، ولا سيما فى البلدان العربية الأكثر تقشفًا على الأقل فى قدرتها على الإنفاق، يكفى أن تُقام وربما كيفما اتفق، لأن الأوضاع العامة قد لا تتيح أكثر من مجرد الاستمرار. حسب هذه العلامات المتبقية، بمعجزة ما، من ماض يمكننا أن نعتبره الآن ذهبيًا وسعيدًا رغم أنه فى زمنه لم يكن يبدو كذلك، يكفى أن تواصل ظهورها. وهذا ما يمكننا قوله عن الأيام القرطاجية بصورة خاصة، حتى وإن كان قد سبق لنا أن قلناه عن المهرجان القاهرى. فأيام قرطاج، تلك الظاهرة السينمائية العربية/الإفريقية، التى تنافس فى عراقتها تلك الظاهرة الدولية الكبيرة فى القاهرة، وحتى من منظور الأقدمية التاريخية، ستصل فى دورة العام المقبل إلى استكمال عامها الستين من عمرها. وهى حقبة زمنية طويلة قطعتها هذه الظاهرة رغم كل شىء، محققة الكثير من الوعود التى أطلقها المؤسس الكبير الطاهر الشريعة فى الدورة التأسيسية الأولى عام 1966. صحيح أن واحدًا من أحلام الشريعة الكبرى، وهو بالتحديد، وكما يفيدنا الاسم الرسمى للمهرجان على أى حال، خلق جسرا حقيقيا يربط بين السينما العربية وتلك الإفريقية، لم يتحقق بالمعنى الذى كان ذلك الرائد يتوخاه، لكن المحاولات لا تزال تتواصل حتى اليوم مع آمال بالنجاح تؤجل وتؤجل. وهى تؤجل رغم أن قاعات المهرجان وطاولات الطعام وصالات العرض، وشوارع تونس العاصمة وأزقتها، تشهد ذهابًا وإيابًا لسينمائيين من الجانبين، لكنه يسير دائمًا فى خطوط مستقيمة نادرًا ما تلتقى. هذا صحيح، ولكن صحيح فى المقابل أن الجانب العربى من «الأيام»، عرف على مدى دوراته كيف يعرض ويكتشف ويحيى ويرسخ بعض أهم الأفلام والتيارات القادمة من معظم بلدان الإنتاج السينمائى العربى، دون أن ينسى مصر وسينماها الأكثر تقدمًا. فمن قرطاج انطلقت تاريخيًا، بجوائز أو من دون جوائز، أفضل الأفلام العربية الأكثر تقدمًا، بما فى ذلك، وبخاصة، أفلام فلسطين ولبنان وسوريا، ناهيك عن أعظم الأفلام التونسية التى مهدت للنهضة السينمائية الكبيرة التى يشدها هذا البلد المضيف. ومن هنا ارتبط أفضل ما قدمته السينمات العربية من تجديد بالأيام القرطاجية، وما فيها على هذا البلد من نكهة سينمائية مهدت دائمًا لتلك الحال التى تجعل من العاصمة التونسية مدينة سينمائية بامتياز، ولو لأسبوعين من الزمن، جاعلة، وبالنسبة للموسم الخريفى المهرجانى، العربى على الأقل، المناسبة جديرة بالقول المأثور: ختامها مسك. وهذا المسك من المدهش أن يكون هو، ومن جديد، ورغم التوقعات الأقل طموحًا، والتى كانت تقارب المخاوف، ومرة أخرى بالنظر إلى الأوضاع التونسية العامة، بيضة القبان فى دورة جديدة كانت أيدينا على قلوبنا خوفًا عليها وعلى المهرجان ككل، حتى قبل ساعات من الافتتاح، وستظل كذلك على أى حال، حتى ساعات بعد الختام. لكن يبدو أن تشاؤمنا سيفضى إلى خيبة محمودة هذه المرة أيضًا، رغم توقعاتنا التى انبنت من التغيير السنوى فى إدارة المهرجان ما يفقده حيوية لا بد منها، ورغم الاضطرار إلى تقليص عدد الضيوف، ورغم تفضيل كثر، حتى من السينمائيين التونسيين، أسوة بغيرهم من زملائهم العرب، إرسال أفلامهم أو الانتقال هم أنفسهم إلى مهرجانات أكثر ثراء ووعودًا فى بلدان عربية أكثر قدرة على الإنفاق من تونس. ولكن هنا بالذات يبقى السؤال المحورى: صحيح أن الثراء يصنع بهرجًا وأبهةً ما، وربما يصنع أفلامًا أيضًا وإعلامًا سخيًا، لكنه هل يمكنه أن يصنع، حقًا، تاريخًا ومكانة؟ أبدًا، والدليل أن الموسم المهرجانى الذى تختتمه الأيام القرطاجية خلال يومين، أكد من جديد مكانة مهرجان القاهرة ومهرجان قرطاج، بأفلام السينمائيين الذين قد تجتذبهم وعود البلدان الأكثر غنى وسخاء، أو بدونها، وبحضورهم أو من دون هذا الحضور... ولعل هذه الحقيقة خير مسك نختم به هذا الموسم، وإن كان لا بد لنا فى حلقة أخيرة، فى الأسبوع المقبل، أن نعود لما تمكنت أيام قرطاج الأخيرة من عرضه وإدخاله فى سياق تاريخها العريق.