سألوا برنارد شو عن الرأسمالية، فأجابهم «غزارة فى الإنتاج مثل شعر ذقنى، وعدم عدالة فى التوزيع مثل حالة رأسى»، فلقد كان أصلع غزير الذقن. أتصور أن المهرجانات العربية صارت مثل شعر الذقن، بينما الأفلام المنتجَة هى الرأس. قبل أيام قليلة كنت أتابع فاعليات مهرجان أبوظبى فى دورته السادسة، وبعد أربعة أيام عُدت مرة أخرى إلى أبوظبى لحضور واحد من أقصر المهرجانات زمنًا، إنه مهرجان «تروب فست أرابيا» فى طبعته الثانية وبعد أيام قلائل تبدأ أحداث انطلاق مهرجانين، الأول هو الأقدم بين كل المهرجانات العربية «قرطاج»، والثانى هو أحدثها فى مجال السينما الروائية «الدوحة ترابيكا» فى رابع دوراته.
ولكن لماذا هذا التزاحم الشديد فى المهرجانات العربية التى تتلاحق كلها فى شهرين؟ يقص «أبوظبى» شريط الافتتاح فى منتصف أكتوبر، ويعلن «وهران» صفارة الختام فى منتصف شهر ديسمبر، وبين المهرجانين تتلاحق كل المهرجانات العربية، بالإضافة إلى «قرطاج»و«الدوحة» لدينا «القاهرة» ثم «مراكش» ثم «دبى» وصولا إلى «وهران» فى دورته الخامسة، وكنا قبل عامين نلتقى فى نهاية أكتوبر مع «دمشق» الذى تأجَّل بسبب ثورة الشعب السورى ضد طغيان بشار. لو عدنا إلى أقدم مهرجان عربى عرفناه ستجد أنه «أيام قرطاج» الذى أطلقه الناقد التونسى الكبير الراحل الطاهر شريعة عام 1966 فى شهر أكتوبر، وفى نفس الشهر بعدها بعشر سنوات انطلق مهرجان القاهرة قبل أن يستقر فى السنوات الأخيرة على نوفمبر. وتتابعت كل المهرجانات الخليجية بداية من «دبى» 2004 فى مطلع ديسمبر، ثم «أبوظبى» منتصف أكتوبر 2007، ثم «وهران» النصف الثانى من ديسمبر، وإن كانت أولى دوراته قد اختارت شهر يونيو، ولكنه منذ الثانية وهو يُفضِّل زحام ديسمبر. كل المهرجانات العربية كانت تتحايل على مواعيدها فى السنوات الأخيرة تتقدم أسبوعًا أو أسبوعين بسبب مهرجان رمضان الذى تتوقف فيه الأنشطة السينمائية أو على الأقل تتضاءل، مما أدى إلى أن كل مهرجان كان يبحث عن موعد يبعده عن رمضان حتى انتقل رمضان إلى شهر أغسطس، وترك الساحة لصراع المهرجانات السينمائية. لماذا هذا التزاحم حتى إن مهرجانًا وليدًا مثل شرم الشيخ يختار أيضا نوفمبر؟
مهرجان «كان»، الذى يُعقَد فى شهر مايو هو دائمًا المحطة الرئيسية لأغلب المهرجانات العربية، فهو نقطة الارتكاز فى الاختيار، ورغم ذلك فإن فى مهرجان أبوظبى الأخير لم يكن «كان» هو المحطة الرئيسية والهامّة فى اختياراته، بل اتجه إلى كل المهرجانات الأقل شهرة وإلى الاتصالات الشخصية لصناع أفلام لم يسبق عرضها، وتمكن من خلال تريزا كامينا المبرمجة الأجنبية، وانتشال التميمى المسؤول عن البرمجة العربية، من اختيار كثير من الأفلام خارج الصندوق المتداوَل، فلا ينبغى أن ينتظر «كان» ثم «فينسيا» الذى يعقد فى شهر سبتمبر.
المهرجانات تلقى صعوبة فى الحصول على الفيلم العربى الذى لم يسبق عرضه من قبل، ولهذا صارت تشارك فى الإنتاج من خلال مؤسسات وهيئات تابعة لها، لكى تضمن أن المخرج سيفضِّل العرض فى المهرجان مثل أن مارى جاسر الفلسطينية بفيلم «لما شفتك» وهالة لطفى من مصر بفيلم «الخروج للنهار» فى «أبوظبى» وسوف تكتشف أن مهرجانَى الدوحة ودبى يعرضان أفلامًا عربية أسهما فيها إنتاجيًّا ويبدو أنه لا يوجد حل آخر.
هل كثرة المهرجانات لعبت دورًا فى انتعاش السينما العربية؟ لا تستطيع أن تضع السينما العربية كلها فى قائمة واحدة أو قانون واحد. مصر مثلا أرى أن فرصتها فى أن تنتعش سينمائيًّا ستجدها من خلال الأزمة الحالية بعد تراجع الشركات الكبرى عن الإنتاج وطرح بدائل أخرى من الممكن أن تسهم فى فتح باب مختلف ونمط مغاير. أتذكر فى شهر أكتوبر 2010 أن مصر حظت بجائزتين ذهبيتين فى كل من «الدوحة ترايبكا» (الحاوى) لإبراهيم بطوط، وفى مساء نفس اليوم حصلت مصر أيضا بفيلم «ميكروفون» لأحمد عبد الله على جائزة التانيت الذهبى من قرطاج، وهى من المرات النادرة التى حظيت فيها السينما المصرية بجائزة من قرطاج.
مظاهر كثيرة تؤكد أن مصر ستقدم سينما أفضل حتى فى وجود ضغوط دينية تحمل توجهًا معاديًا للفن، أتصور كما أن عوامل الخطر هى التى تدفع الإنسان إلى مواجهتها واكتشاف قواه الخفية فإن الأمر لا يختلف عن الإبداع. ورغم ذلك فستظل المهرجانات المصرية هى الأكثر معاناة فى الحصول على فيلم مصرى، لا عربى فقط، وأسلوب المواجهة تستحق مقالا آخر.