فى شهر يونيو الماضى كتبتُ مقالًا فى نفس هذا المكان بعنوان «بغداد أول مرة»، وتحدثتُ فيه عن زيارتى الأولى للعاصمة العراقية وما توّلد عنها من انطباعات. لكن هذه الزيارة التى امتدّت قرابة أسبوع لم تكن كافية بالتأكيد لرؤية كل المعالم العراقية، فنحن إزاء بلد عربى كبير وعريق ويتميّز بتنوعه الحضارى والسكانى المبهر. وعندما أتيحت لى زيارة العراق للمرة الثانية، كانت فرصة لإعادة المرور على بعض المعالم البغدادية التى لم تنل حظها من التأمل والاستمتاع، كما واتتنى الفرصة للخروج قليلًا إلى خارج العاصمة والذوبان أكثر مع الناس. • • • ألّا ترى شارع المتنبى يوم الجمعة فستظل معلوماتك عنه ناقصة، ولقد تصادَف أن زرته المرة الأولى فى غير هذا اليوم، فأحببتُ أن أتعرّف عليه أكثر. قصدته فى زيارتى الأخيرة فى السابعة والنصف صباحًا وكانت الحركة قد أخذَت تدّب فيه، وعلمتُ أنه يظل على هذا الحال من الحيوية حتى آذان الظهر ثم يخّف الإقبال عليه بالتدريج. فى المكان روح تشبه روح سور الأزبكية من حيث المكتبات التى يغصّ بها وتبيع المخطوطات الأثرية والكتب من كل لون من أول الفكر الشيوعى وحتى الفكر الدينى، ومن الاقتصاد للأدب والفن. لكن شارع المتنبى أكثر من مجرد مساحة لبيع الكتب. إنه بازار بكل معنى الكلمة وفيه يمكنك أن تجد شيئًا من كل شئ.. ملابس جديدة ومستعملة ومستلزمات سيارات وهدايا تذكارية ومحال للمرطبات يعود أحدها إلى عام 1900 أى من قرن وربع بالتمام والكمال. استوقفتنى لوحات تشكيلية رفيعة المستوى لفنانين عراقيين، وصور بكل الأحجام لشخصيات عامة عراقية وعربية وعالمية، وعلى الناحيتين جلس فنانون جاهزون لرسم بورتريهات لمرتادى الشارع كما هو الحال فى العديد من العواصم العالمية. وأمام واحد من هؤلاء الفنانين جلسَت طفلة صغيرة بشعر أسود منسدل تتصّنع الوقار. على باب سوق السراى الذى يتفرَع من شارع المتنبى وتتناثر فيه المقاهى الصغيرة طلبتُ من أحد المارة أن يلتقط لى صورة بموبايلى فابتسم ابتسامة لطيفة قائلًا: لوحدتش لُو وِياي؟( لوحدك والا معايا). ضحكتُ من قلبى وأجبته: واحدة كده وواحدة كده. وفى الممر المفضى إلى إحدى الندوات الثقافية حول الشاعر الكبير بدر شاكر السيَاب رائد الشِعر الحر- كانت تباع مصنوعات خشبية عليها حفر باللغة السومرية إحدى أقدم لغات العالم، فبدا الأمر وكأن السائر فى هذا الممر ينتقل من تاريخ إلى تاريخ. • • • بطول الطريق الدولى الذى أخذنى -مع شابتين لطيفتين من مصر وإيران- إلى كربلاء المقدسّة كان رأسى يشتعل بالفضول. صادف يوم زيارتنا ذكرى وفاة السيدة فاطمة بنت حزام إحدى زوجات علّى ابن أبى طالب رضى الله عنه والملقبّة بأم البنين. رُزقت منه بأربعة أولاد استشهدوا جميعًا فى معركة كربلاء، وبينهم العباس قائد جيش الحسين رضوان الله عليه، وساقى المحاربين بعدما مُنع عنهم الماء، وهذا يفسّر العبارة التى ترتفع فوق مسجده الفخم بنقوشه الزرقاء البديعة وتقول "السلام عليك يا ساقى عطاشى كربلاء". تركَت السيدة فاطمة من ورائها كربلاء بعد استشهاد جميع أبنائها ورحلَت إلى المدينة المنوَرة إلى أن توفّاها الله. وفى ذكراها تقام مجالس العزاء فى المساجد والحسينيات، ومن باب أولى فى كربلاء حيث يفصل ممشى طويل بين العتبتين (القبرين/المرقدين/الضريحين)الحسينية والعباسية، وإلى هذا الممشى الطويل أشارت لنا الشابة الإيرانية قائلة: هنا دارت معركة كربلاء. • • • بخلاف الطريق الدولى الذى مضينا فيه يوجد طريق آخر مخصّص للمارة الذين يأتون من كل صوبٍ مشيًا على الأقدام لزيارة قبر الحسين بن عليّ خصوصًا فى يوم عاشوراء وفى ذكرى الأربعين. يقطع الزوّار الطريق فى عدة أيام.. أربعة أو خمسة أو أكثر أو أقل حسب نقطة الانطلاق، وعلى امتداد الطريق ينتشر متطوعون لتقديم كل الخدمات الممكنة من أول الوجبات الساخنة وغسل الملابس وحتى المبيت. سألتُ السائق: هل كانت الزيارات ميسّرة فى ظل حكم البعث؟ ردّ: كان الذهاب بالسيارات متاحًا لمن يشاء فى أى وقت أما الزيارة مشيًا على الأقدام فلم يكن مسموحًا بها. كلما اقتربنا من كربلاء تكثر صور الحسين وتنتشر اللافتات التى تشير إلى الفضائل الكثيرة لزيارته والبكاء على آله وصحبه حتى انتهينا إلى لافتة كبيرة مكتوب عليها "حماية كربلاء المقدسة أمانة فى أعناقنا". مررنا بأكثر من نقطة واحدة من نقاط التفتيش، وبعدما اجتزناها جميعًا سَبَحنا فى أمواج بشرية تِلو أمواج. • • • زوّار من كل الأعمار، عراقيون وإيرانيون يتزاحمون على صلاة العصر فى آخر لحظة قبل أن تغرب شمس يوم 13 جمادى الثانى وتحمّر أشجار النخيل بفعل الضوء المبهر الذى يغمر المكان. عائلات بالكامل تفترش هذه البقعة من الأرض التى شهدَت معركةً كانت نقطة فاصلة فى تاريخ المسلمين، ويا لها من نقطة. حاولتُ أن أدخل للصلاة فكدتُ أُعتصَر بالمعنى الحرفى للكلمة، اتخذتُ قرارًا بالخروج، لكن احتاج منّى الأمر مجهودًا جبّارًا كى أفتح ثغرة فى هذه السلسلة البشرية من النساء المتشحّات بالسواد، وأفلتتُ بالكاد. اكتفيتُ بقراءة الفاتحة أمام مسجد ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعوتُ لأسرتى ولأسرة صديق عراقى حمّلنى أمانة الدعاء. هذا الجثمان الطاهر للحسين يمثّل حلقة وصل بين كربلاء والقاهرة، ومحبّة المصريين لآل البيت ثابتة. • • • فى زيارة الدول الكبيرة مهم جدًا التخطيط وحسن استخدام الوقت، وقد حاولتُ أن أفعل قدر الإمكان لكن ما زال أمامى الكثير لزيارته، فزيارة كردستان مثلًا تنقل ضيف العراق إلى عالم جديد ومختلف فى لغته وعاداته وسياسته أيضًا و«لو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة». قبل أن نصل إلى مطار بغداد الدولى، مررنا بموقع تفجير موكب قاسم سليمانى قائد الحرس الثورى الإيرانى وأبى مهدى المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبى فى 3 يناير 2020 ومرافقيهما. حوّل التفجير سيارات الموكب إلى قطع من الحديد الصدئ بعضها فوق بعض، وتُرك هذا الركام شاهدًا على مجرد فصل واحد من فصول الصراع الإقليمى والدولى على العراق.