نشرت جريدة الرأى الكويتية مقالا للكاتبة نادية الخالدى، تدعو فيه إلى استغلال نهاية العام كفرصة علاجية تهدف إلى مراجعة الذات، لتحويل آلام الماضى إلى دروس ذات مغزى، وتمهيد الطريق للنضج، بدلاً من مجرد ملاحقة الأهداف السطحية أو الغرق فى جلد الذات.. نعرض من المقال ما يلى: نهاية العام ليست تقويما.. بل جلسة علاج جماعية مع الذات. فى كل نهاية عام، ينشغل الناس بكتابة الأهداف، وتنظيف البيوت، وشراء المفكرات الجديدة، وكأنهم يحاولون محو ما مضى بلمسة ديكورٍ موسمية. لكنّ الحقيقة النفسية أعمق من ذلك بكثير، فالنهاية فى جوهرها ليست حدثًا خارجيًا، بل عملية إدراك داخلى يعيشها العقل والجسد كنوعٍ من المراجعة الشاملة للذات. ومن وجهة نظرى كدكتورة ومعالجة نفسية، نهاية العام تشبه جلسة علاج جماعية مع النفس، لحظة مواجهة صادقة بين ما كنا نظنه نحن، وما كنا عليه فعلاً. فى علم النفس المعرفى يُعتبر الزمن أداة تقييم ذاتى، ولهذا يربط الدماغ بين نهاية العام وبين فكرة التقييم الشامل للذات، حيث يُراجع الفرد أفكاره وقراراته وعلاقاته ليحدد ما يجب أن يستمر وما يجب أن يتوقف. لكن البعض يقيّم نفسه بزاوية قاسية، يفتح دفتر الأيام ليعدّ الخسائر فقط: ما أنجز، ما فاته، من خذله، ومن غادره. وهذه المقاربة، بحسب دراسات جامعة شيكاغو عام 2021، تزيد الشعور بعدم الرضا بنسبة 46 % لأنها تُغذّى منطقة اللوزة الدماغية المسئولة عن استحضار الذكريات المؤلمة بدلاً من معالجتها. فى المقابل، الأشخاص الذين يمارسون ما يُعرف ب«إعادة بناء القصة الشخصية» يعيدون صياغة تجاربهم بطريقة أكثر رحمة واتزانا، ما يخفض معدلات القلق ويزيد شعورهم بالمعنى. التغيير فى الجملة بسيط، لكنه تغيّر فى الطاقة والمعنى. أتذكر إحدى قصص العيادة النفسية إحداهن التى كانت تكتب كل نهاية سنة قائمة خيباتها وتبكى وهى تقرأها، فطلبت منها أن تكتب بدلاً منها قائمة الوعى، تسجل فيها كل المواقف التى جعلتها تفهم نفسها أكثر حتى وإن كانت مؤلمة. بعد شهر أخبرتنى أن نظرتها للحياة تغيّرت بالكامل، لم تعد ترى الألم كعقوبة بل كدرس. وهنا تتجلّى النقطة الفارقة فى العلاج النفسى: الوعى لا يُلغى الألم لكنه يُحوّله إلى معنى. فالدراسات الحديثة من جامعة هارفارد حول العقلية النامية تؤكد أن الأشخاص الذين يعيدون تفسير التجارب الصعبة كفرص للتعلم يحققون نموًا ذاتيًا أكبر بنسبة 60 % مقارنة بمن يغرقون فى جلد الذات. لا أرى فى كتابة الأهداف عادة تنظيمية فحسب، بل طقسًا علاجيًا إن أُنجز بوعى. فعندما نكتب «أريد أن أكون أكثر هدوءًا» نحن فى الواقع نُعيد برمجة أدمغتنا على التركيز على السلوك الهادئ، وعندما نمزق ورقة كتبنا عليها «ما أريد أن أتركه» فإن الرمزية تُحفّز الجهاز العصبى على الشعور بالتحرر. فى نهاية العام لا تسأل نفسك كم ربحت، بل كم نضجت، كم غفرت، وكم أحببت نفسك رغم العثرات. الوعى هو الثروة الحقيقية التى لا تُسجل فى دفاتر الحساب بل تُكتب فى القلب. وكل عامٍ جديد لا يولد من التقويم بل يولد حين نضع أيدينا على قلوبنا ونقول لأنفسنا: لقد عشت وتألمت وتعلمت، والآن حان وقت أن أزهر من جديد. النص الأصلى: https://tinyurl.com/yy4nwjj9