لا شك أن مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطينى خارج الوطن العربى بعد طوفان الأقصى فاقت بكثير كل ما جرى كتعبير علنى عن هذا التضامن داخل الوطن العربى. صحيح كانت هناك تظاهرات فى المغرب واليمن والعراق، وشارك كثيرون فى التبرع بالمساعدات الغذائية والأدوية والملابس لصالح ضحايا الحرب الإسرائيلية فى غزة، ولكن يبقى كل ذلك أقل مما كان متوقعًا فى ظل نكبة عربية ثالثة تجاوزت، بامتدادها إلى كل الشرق الأوسط، كل ما جرى من قبل فى 1948 باحتلال إسرائيل قسمًا من أراضى فلسطين، أو فى 1967 بامتداد الاحتلال الإسرائيلى لأراضٍ أخرى فى مصر وسوريا، فضلًا عما تبقى من فلسطين فى الضفة الغربية. ولذلك يطرح هذا المقال بعض الاجتهادات فى تفسير محدودية هذا التضامن. مسئولية الشعوب: طبعًا هناك بعض الإجابات الجاهزة عن هذا السؤال، منها مثلًا أن الحكومات العربية لا ترحب، بل وتقيّد، حريات التجمع السلمى، وقبلها حريات الرأى والتعبير بكل الوسائل. ولا شك فى صحة هذه الإجابة، ولكنها ليست مقنعة، فهناك قدر من حرية التجمع فى بعض الدول العربية مثل المغرب وتونس ولبنان. ولكن من ناحية أخرى، فإن بشاعة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين كان يفترض أن تدفع المواطنين العرب للخروج إلى الشوارع متحدين هذه القيود، مثلما حدث فى مناسبات سابقة، عندما حاول أحد الصهاينة حرق المسجد الأقصى فى أغسطس 1969، واندلعت مظاهرات عارمة أعقبها عقد أول مؤتمر قمة إسلامى فى الرباط بالمغرب. الغياب شبه الكامل لمظاهر التضامن مع الشعب الفلسطينى، مع تجاوز آلة الحرب الإسرائيلية كل قواعد القانون الدولى باستهدافها النساء والأطفال، والكنائس والمساجد، والمدارس والجامعات، والمستشفيات ودور السكن بكل أنواعها من أبراج سكنية ومخيمات، لا يمكن أن يكون سببه الوحيد هو تلك القيود التى تفرضها بعض الحكومات العربية على حريات التجمع والتنظيم. تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية فى الوعى العربى ومع استثناء تلك الشعوب العربية التى تعانى من انقسامات تكاد تصل إلى درجة الحرب الأهلية فى السودان وليبيا، أو من انهيار سلطة الحكومة بسبب التدخل الأجنبى وسقوطها، مثلما جرى فى سوريا، يمكن القول إن مكانة القضية الفلسطينية قد تراجعت كثيرًا فى اهتمامات الشعوب العربية لأسباب متعددة، منها انشغال الحكومات العربية بمشروعات قطرية لا تأخذ البعد العربى فى الحسبان، ومنها تراجع الحركات السياسية الجامعة فى الوطن العربى. فسواء تعلق الأمر ببعض الدول العربية فلكل من قادة هذه الدول مشروعه لنهضة دولته، ولا مكان للتضامن مع الشعب الفلسطينى فى هذا المشروع. بل ومما عزز من ذلك أن خطاب هؤلاء القادة لمواطنيهم يعزز من الهوية القطرية دون ربطها بأى هوية أخرى جامعة، فالخطاب السياسى المسيطر يؤكد على الهوية القطرية. ويترافق ذلك مع انحسار التأييد للحركات السياسية الجامعة العابرة للأقطار، مثل الدعوة القومية العربية أو الإسلام السياسى. لقد سقطت النظم التى كانت ترفع شعارات الوحدة العربية، بل وكادت الأحزاب التى تبنتها تختفى من المسرح السياسى فى بلدانها، مثل حزب البعث فى العراق، وبعد ذلك فى سوريا، ولا يكاد يُسمع له صوت فى بلدان أخرى مثل لبنان أو الأردن. وجاء تراجع دعوة القومية العربية تدريجيًا بعد الهزيمة العربية فى حرب يونيو 1967، التى أدت إلى النكبة العربية الثانية باحتلال إسرائيل لأراضٍ عربية خارج فلسطين، وهى الحرب التى واجهت فيها إسرائيل نظامين يرفعان شعارات القومية العربية فى مصر وسوريا. ومع أن تراجع التيار القومى العربى صاحبه صعود تيارات الإسلام السياسى، التى سجلت مكاسب انتخابية واسعة فى بعض الدول العربية مثل الأردن، وشاركت أو تولت الحكم لفترات قصيرة فى مصر وتونس والمغرب، أو وصلت إليه بالانقلاب العسكرى كما كان حال السودان فى الفترة 1989–2019، إلا أن أداء الإسلاميين فى السلطة لم يحقق آمال من انتخبوهم، مما أعطى الفرصة لمنافسيهم لإزاحتهم بالقوة. كل من الدعوة القومية العربية وحركات الإسلام السياسى أعطتا للقضية الفلسطينية مكانة بارزة فى خطابهما؛ فبالنسبة للأولى، إسرائيل هى أداة الاستعمار الغربى للحيلولة دون تحقيق التقدم أو الوحدة فى العالم العربى، وبالنسبة للثانية هى عدو للأمة الإسلامية. انحسار التأييد لكل من هذين التيارين ترافق مع تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وصعود تيارات تشدد على الانتماءات الإقليمية، الخليجية على سبيل المثال، أو حتى التيارات الإثنية دون القطرية، مثل الشيعية والكردية والسنية فى العراق، أو المارونية فى لبنان. وفى ظل هذه الظروف، بطبيعة الحال، لم يعد هناك من قادة عرب يتبنون دعوة القومية العربية كما كان حال قادة البعث فى سورياوالعراق، وجمال عبد الناصر فى مصر، ومعمر القذافى لفترة فى ليبيا. طوفان الأقصى مشكلة للرأى العام العربى: ومن ناحية أخرى، فعلى الرغم من التأييد، بل والإعجاب، بقدرة الفلسطينيين فى غزة على ما بدا أنه إسقاط لنظرية الأمن الإسرائيلى، بعجز أجهزة الدولة العبرية عن التنبؤ بما كانت حماس تخطط له، وخصوصًا بعدما أدى انضمام كل من حزب الله فى لبنان وأنصار الله فى اليمن إلى توسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل وتكبيدها خسائر غير مسبوقة، وإجبار المواطنين الإسرائيليين على اللجوء إلى المخابئ توقيًا لصواريخ حزب الله، إلا أن حجم الدمار الذى ألحقه الإسرائيليون بغزة، وتصاعد هجمات المستوطنين الإسرائيليين فى الضفة الغربية، ثم الضربات التى أطاحت بقيادات حماس وحزب الله والحوثيين، أدى كل ذلك إلى تراجع التأييد لاستمرار المقاومة المسلحة فى البلدان الثلاث، بل واعتقاد البعض أن طوفان الأقصى هيّأ للحكومة الإسرائيلية الفرصة للإجهاز على محور المقاومة للمشروع الصهيونى فى الشرق الأوسط، بما فى ذلك إيران، بل والمضى قدمًا فى تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى الذى يتجاوز حتى حدود فلسطين التاريخية ليضم أراضى فى كل من سورياولبنان. وهكذا فتر الحماس للمقاومة المسلحة بعد أن اتضح أنها انتهت بخسارات استراتيجية للفلسطينيين وأنصارهم فى الشرق الأوسط، لا يعرف أحد كيف سيخرجون منها فى المستقبل. طوفان الأقصى مصدر حرج للحكومات العربية: وأخيرًا، فقد شكّل طوفان الأقصى حرجًا للحكومات العربية. جاء طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023 والحكومة الأمريكية منشغلة بحثّ بعض الحكومات العربية، على اتخاذ خطوات جديدة على طريق تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، والانتقال من التطبيع المستتر إلى التطبيع العلنى. وتوقف الأمر على مدى استعداد الحكومة الأمريكية لقبول طلبات هذه الدول العربية كثمن لهذا التطبيع، ومنها اعتبارها حليفًا مثل دول حلف الأطلنطى، ومساعدة الولاياتالمتحدة لها على تطوير برنامج سلمى لاستخدام الطاقة النووية. ولكن استمرار العدوان الإسرائيلى واتساع نطاق المواجهة ليشمل كلًا من حزب الله وأنصار الله فى اليمن جعل من المحرج للسعودية مثلا قبول التطبيع فى هذه الظروف. ولكن كون محور المقاومة كله هو من تصفهم السعودية وحكومات الخليج بأنهم حلفاء لإيران، جعل هذه الحكومات تصر على أن تسوية الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل يجب أن تشمل كذلك نزع سلاح حماس وإنهاء أى دور سياسى لها. كذلك تنظر حكومات عربية ، إلى حماس باعتبارها فصيلًا من فصائل الإسلام السياسى الذى تكافحها. صحيح أن تلك هى مواقف بعض الحكومات العربية، ولكن هذه المواقف تسهم فى تشكيل الرأى العام العربي، خصوصًا أن هذه المواقف تجد صدى لها فى التغطية الإعلامية لما يجرى على أرض فلسطين، ولذلك بدت بعض القنوات التليفزيونية العربية، فى تغطيتها، أقرب إلى عكس وجهة النظر الإسرائيلية منها إلى تغطية محايدة لا تنحاز لأى من طرفى الصراع. أهمية الرأى العام العربى فى مسار القضية الفلسطينية تلك، فى رأى الكاتب، بعض أسباب غياب مظاهر التعاطف العلنى مع الشعب الفلسطينى من جانب الرأى العام العربى مقارنة بالاحتجاجات الواسعة فى معظم أنحاء العالم على الوحشية الإسرائيلية. غياب هذه المظاهر فى الوقت الحاضر يطلق يد الحكومات العربية فى الاستجابة للشروط التى تطرحها خطة الرئيس الأمريكى كما تفسرها إسرائيل، وهى تراجع عما أقرته الحكومات العربية من قبل كأسس لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى، وهى جلاء إسرائيل عن كل الأراضى العربية المحتلة، وتمتع الشعب الفلسطينى بحقه فى تقرير المصير وفقًا لصيغة الدولتين. ويحدث هذا التراجع فى الوقت الذى تتنكر فيه إسرائيل، عملًا وقولًا، لاحترام التزاماتها بوقف إطلاق النار فى غزةولبنان، ومضيّها لاحتلال أراضٍ سورية رغم استعداد الحكومة السورية لإبرام معاهدة صلح معها، وتكرار تصريح قادتها بأن إسرائيل الكبرى تشمل أراضى فى سورياوالأردنولبنان ومصر والسعودية. تضامن الشعوب العربية مع الشعب الفلسطينى هو وقوف فى وجه أخطار تهدد الأمن القطرى لعديد من الدول العربية، ومن شأنه أن يقوّى يد الحكومات العربية وهى تتفاوض مع الإدارة الأمريكية حول تطبيق خطة تعد، على الأقل، بجلاء القوات الإسرائيلية عن معظم غزة، والانطلاق إلى مسار قد ينتهى بإقامة دولة فلسطينية. أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة