قبل أيام قليلة أعلنت السلطات البريطانية تأجيل إعلان قرارها بشأن الموافقة على طلب الصين إقامة "سفارة ضخمة" لها بالقرب من حي المال في لندن، وهو التأجيل الثالث. وبعد أن كان المقرر إعلان القرار يوم 10 ديسمبر، تأجل الأمر حتى 20 يناير. وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس) قالت تاليا بيترسون الزميلة الأكاديمية في البرنامج العالمي بالمعهد إن القرار بشأن مشروع السفارة محور نقاش واسع النطاق في بريطانيا حول كيفية تعامل بريطانيا مع المخاطر المحتملة التي تمثلها الصين بشكل عام على الأمن القومي البريطاني. ويثير منتقدو مشروع السفارة العملاقة مجموعة من المخاوف، بما في ذلك احتمال استخدام الصين لها في أغراض التجسس، خاصة وأن موقع السفارة يوجد مباشرة فوق شبكات الألياف الضوئية التي تدعم البنية التحتية للنظام المالي في لندن، ما قد يتيح للصين إمكانية الوصول إلى حركة اتصالات حساسة. في المقابل قال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأن دمج المواقع المتعددة التي تشغلها البعثة الدبلوماسية للصين لدى بريطانيا في موقع واحد قد يحقق "مزايا أمنية"، في حين أدانت الصين "التشهير الدنيء من قبل جهات معادية للصين بمشروع السفارة الصينية الجديد". وبغض النظر عن أي مخاطر حقيقية تشكلها السفارة، فإن الجدل المحيط بها يثير التساؤل حول ما إذا كانت بريطانيا مؤهلة أو جاهزة لمنع وتعطيل أنشطة الاستخبارات الصينية بشكل كاف. وفي وقت سابق من الأسبوع الحالي حذر ستارمر من أن الصين تشكل "تهديدات للأمن القومي"، مستدركا بأن عدم التعامل مع بكين في الوقت نفسه يعد "تقصيرًا في أداء الواجب" نظرًا لأهميتها الاقتصادية، مشيرا إلى إمكانية تعزيز العلاقات التجارية دون تعريض الأمن للخطر. جاء خطابه بعد أن تعهد وزير الأمن البريطاني دان جارفيس بتعزيز تدابير الأمن القومي، ردا على تنبيه تجسس صادر عن جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (إم 15) يشير إلى أن حسابين إلكترونيين مرتبطين بالمخابرات الصينية كانا يستهدفان أفرادا لديهم إمكانية الوصول إلى معلومات حكومية. وتقول تاليا بيترسون في تحليلها إن مثل هذه الحوادث تبرز نمطًا متزايدا، تكون فيه استجابات السياسة البريطانية للتجسس الصيني رد فعل إلى حد كبير، مدفوعة بالفضائح والضغط الإعلامي بدلا من التخطيط الاستراتيجي المستدام. وأضافت أن هذا الموقف له آثار أوسع على المصالح الاستراتيجية لبريطاينا لأنه يضعف قدرتها على ردع نشاط الدولة المعادي في الداخل، ويؤدي إلى تشتت السياسات تجاهها. كما أنه يخاطر بترك بريطانيا بدون توجه استراتيجي متماسك بالنسبة للصين في وقت تتنامي فيه أنشطة الاستخبارات الصينية كما وكيفا. وترى بيترسون أن محاولات بكين لاستهداف المسؤولين، والحصول على بيانات حساسة، والتأثير على العمليات الديمقراطية في بريطانيا موثقة جيدا. وقد ازدادت هذه المحاولات في السنوات الأخيرة، في حين دعت اللجان البرلمانية ومجتمع الاستخبارات مرارا وتكرارا إلى استراتيجية وطنية موحدة وقوية لمواجهة التحركات الصينية. ومع ذلك، لم تترجم هذه التحذيرات بشكل كافٍ إلى تخطيط سياسي. فقد رفضت حكومة ستارمر، التي تسعى إلى استقرار العلاقات الثنائية بعد سنوات من الدبلوماسية المتوترة، "الخيار الثنائي" بشأن الصين. وأصر رئيس الوزراء على أن "حماية أمننا أمر غير قابل للتفاوض" مع تأكيد أهمية العلاقات الاقتصادية مع الصين. وفي الممارسة العملية، لا تزال بريطانيا تواجه معضلة حقيقية، تتمثل في كيفية موازنة الفرص الاقتصادية الهائلة التي تنطوي عليها العلاقة مع الصين في مقابل مخاطر الأمن القومي المحتملة التي يمكن أن تتفاقم من خلال زيادة التعاملات مع بكين. وفي حين أن زيادة العلاقات الاقتصادية قد تساعد في دفع النمو، فإن التكامل يخلق تبعيات استراتيجية ونقاط وصول قد تسعى بكين لاحقا إلى الاستفادة منها ما لم تتم إدارتها بحزم وشفافية من قبل السلطات المعنية في بريطانيا. ولا شك أن بريطانيا أحرزت تقدما ملموسا في معالجة تهديدات الأمن القومي في السنوات الأخيرة. ويُعد قانون الأمن القومي لعام 2023 ، الذي حل محل قوانين الأسرار الرسمية القديمة بجرائم حديثة تعكس تهديدات الدولة المعاصرة، إضافةً جيدة للقدرة على ردع وتعطيل نشاط الاستخبارات المعادي. ومع ذلك، لا تزال هناك ثغرات مستمرة. فبينما يعتبر قانون الأمن القومي تقدما مهما، لا تزال بريطانيا تفتقر إلى الآلية المؤسسية اللازمة لتطبيقه بفعالية. وعلى عكس دول مثل أستراليا، تفتقر بريطانيا إلى وجود وحدة عمليات مكرسة للتحقيق في التجسس والتدخل الأجنبي وملاحقتهما قضائيا من البداية إلى النهاية. وفي الممارسة العملية، تواجه الشرطة والمدعون العامون البريطانيون تحديات كبيرة في تحويل المعلومات الاستخباراتية السرية إلى أدلة مقبولة يمكن استخدامها في المحكمة. وحاليا تدرج السلطات البريطانية روسيا وإيران فقط على قائمة "مستوى المراقبة المحسن " الذي يزيد نطاق أنشطتهما المطلوب تسجيلها، بما في ذلك الأنشطة التجارية والأكاديمية والبحثية، في حين مازالت الصين في المستوى الأدنى مع أغلب دول العالم، وهو ما يعني أن أنشطتها تخضع لمستوى أقل من الرقابة والقيود. ومع ذلك، من الواضح أن كل الشروط المطلوبة لتصنيف الصين في المستوى الأول متوافرة وربما زائدة عن المطلوب، بعد أن قال تقرير لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني لعام 2023 إن الاستخبارات الصينية "تستهدف بريطانيا ومصالحها بشكل مكثف ". ولذلك، فإن عدم إدراج الصين في "المستوى المحسن" يخلق فجوة واضحة في دفاعات بريطانيا. وبحسب تاليا بيترسون، تشكل الصين مجموعة واسعة من التحديات المعقدة والحساسة سياسياً والسريعة التطور. ومن المفهوم أنه من الصعب على بريطانيا وضع استراتيجية مفصلة للتعامل مع جميع هذه التحديات. وفي الوقت نفسه، تحتاج لندن إلى اتباع نهج أكثر تماسكاً قد ينطوي على خيارات صعبة. فعندما يتعلق الأمر بتهديدات التجسس والتدخل الأجنبي، لا يُمكن لها تحمل التهاون فيما يتعلق بمصالح أمنها القومي. أخيرا فبدون انتقال بريطانيا من رد الفعل إلى إلى المرونة الاستراتيجية المستدامة في التعامل مع الصين، ستخاطر بالبقاء عرضة للتجسس الصيني والتدخل الأجنبي في كل شؤونها وما ينطوي عليه ذلك من تهديدات جسيمة للأمن القومي.