• بين أم مخرجة سينمائية ترشحت للأوسكار وأب أستاذ جامعي ومؤلف ..كيف نشأ زهران ممداني أول عمدة مسلم لنيويورك • ميرا ناير: سينما تنحاز للمهمّشين… وتربية صنعت قائدًا أمريكيًا شابًا حلت المخرجة الأمريكية من أصل هندي، ميرا ناير ، ضيفة لمقابلة صحفية أجرتها معها مجلة "هاربرز بازار" الأمريكية الموجهة للنساء، وذلك بداخل شقتها الخاصة في الجانب الغربي من جزيرة مانهاتن بنيويورك، تحدثت فيها المخرجة عن مسيرتها الفنية الحافلة، وأيضًا عن علاقتها بابنها السياسي والناشط الأمريكي، زهران ممداني، الذي اُنتخب رئيسًا لبلدية مدينة نيويورك في الرابع من نوفمبر لعام 2025. وتداولت أوساط الجالية الجنوب آسيوية في الولاياتالمتحدة باستمرار مؤخرًا معلومة ارتباطه ب "ناير" في مزيج من الفرح والفخر، خصوصًا مع صعوده السياسي الأخير، وحضوره اللافت في الحملة الانتخابية لبلدية نيويورك، وقد بدا هذا الارتباط لكثيرين امتدادًا طبيعيًا لمسار "ناير" الفني والإنساني. واستعرضت "ناير" عبر المقابلة مسيرتها المهنية، بدءًا من فيلمها الوثائقي "السجادة الهندية" عام 1985، وصولًا إلى "ملكة كاتوي" عام 2016. وأوضحت أن أعمالها شملت أفلامًا ركزت على قضايا اجتماعية وثقافية متنوعة، مثل "سلام بومباي" عام 1988 عن أطفال الشوارع، و"مسيسيبي ماسالا" عام 1991 الذي تناول العلاقات بين الأفارقة أو ذوي البشرة السمراء والآسيويين في الولاياتالمتحدة. وأفادت المجلة أن نهج "ناير" يقوم على تقديم قصص مهمّشة بدقة ثقافية واضحة وحرص على الصدق السردي، وهو ما منحها تقديرًا نقديًا وجماهيريًا واسعًا، من بينها ترشيح للأوسكار، وجائزة الكاميرا الذهبية وجائزة الجمهور عن فيلم "سلام بومباي"، والأسد الذهبي في فينيسيا عن فيلم "زواج مونسون". وعند سؤالها عن كيفية حفاظها على رؤيتها الأصيلة رغم ضغط "النظرة الغربية" التي تطالب الفنان غير الغربي بأن يقدم ما هو مألوف للمشاهد الغربي، أوضحت "ناير" أن جذورها المتينة هي ما منحها القدرة على "التحليق" تلك كما وصفتها، وروت أنها نشأت في بلدة صغيرة في مدينة أوريسا الهندية مع شقيقين أكبر منها، وقضت طفولتها في قراءة الأدب الروسي والإنجليزي، وأنها حلمت في سن الثانية عشرة بالعثور على كاتب هندي يدون واقع بلدته الصغيرة، وأن هذا الأمر حرك حس الكتابة بداخلها؛ فكانت تساءل نفسها: "من ياترى يكتب عن واقعنا؟ هل سأكون كاتبة؟ رسّامة؟ موسيقية؟" ولذلك تقدّمت سرًا لبعض المنح التعليمية، وقُبلت بالفعل في جامعة كامبريدج لكنها صرفت النظر سريعًا عن الالتحاق بها. وعن سبب رفضها كامبريدج، قالت إن والدها كان ضمن من شيّدوا العاصمة الهندية الجديدة بعد الاستقلال، وهو ما جعلها مشدودة لمرحلة الخمسينيات بكل مثاليتها، وفي المقابل، كانت تحمل شعورًا غاضبًا تجاه بريطانيا وإرثها الاستعماري. وعن سبب رغبتها في الذهاب إلى أميركا، اعترفت بأن الدافع كان طريفًا؛ فقد شاهدت فيلم "قصة حب" الشهير في سينما أوديون بدلهي، وأغرتها صورة الطلاب المترفين وسط الثلوج، ولأن عائلتها ليست ميسورة الحال، فقد قالت لنفسها: "ذلك المكان يبدو ثريًا بما يكفي، فلأذهب إليه بمنحة!" وهكذا التحقت بجامعة هارفارد في سن الثامنة عشرة بلا خطة مسبقة سوى الاستكشاف. وأوضحت أن أحد مبادئها كان رفض مسايرة الاستخفاف أو الجهل الأميركي بالهند، حتى وهي في سن الشباب، فحين كانوا يسألونها مثلًا: "هل لديكم سيارات بالهند؟" كانت ترد ممازحة: "عندما تزوروننا سأرسل لكم فيلًا إلى المطار!" وتذكر أن الصور النمطية عن الهند كانت سائدة، ورغم ذلك كان عام 1976 زمنًا أكثر حرية في أميركا، وقد أعجبها الشعور بأنها مجهولة، إذ يساعد المجهول المرء على اكتشاف طريقه. وتوضح أن موقعها بين المجتمعين — الهندي والأميركي — ساعد في تكوين رؤيتها، وقد نقلت ذلك الوعي في فيلم "مسيسيبي ماسالا" الذي خرج من تجربة كونها شخصًا ملون البشرة في بلد العم سام ، يعيش على الدوام بين الخطين الأسود والأبيض، فتارة يُمنح الحرية، وتارة أخرى يفرض عليه المجتمع حدودًا لا يجب أن يتخطاها. وعن الضغط الواقع على الفنان الذي يُتوقع منه أن يكون الممثل الدائم عن ثقافتهم وحضارتهم كاملة في بلاد الغرب، ذكرت أنها تعرضت لانتقادات مشابهة لكاتبة سورية الأصل قالت عائلتها لها بعد صدور باكورة أعمالها: "لماذا كتبتي عن مواضيع أخرى في أول كتاب يمثل مجتمعنا؟"، وقالت "ناير" إن أول أفلامها الوثائقية عن راقصات النوادي الليلية في مومباي جلب لها انتقادًا حادًا من الشعب الهندي الذي تساءل: "لماذا لا تُظهِرين صورة جميلة لبلدنا؟" وكانت تجيب أن الشخصيات المثالية - كطبيب مثلًا يقود سيارة فارهة من أحدث طراز - لا يمثل مادة درامية يمكن تقديمها على الشاشة، على عكس القصص الإنسانية المركبة التي تتناولها أعمالها. وأشارت إلى أن فيلم "مسيسيبي ماسالا" أثار غضب بعض الرجال الهنود الذين لاحقوها في المترو آنذاك، قائلين لها: "هل تعتقدين أن كل رجل أسمر البشرة هو دينزل واشنطن؟ هل تريدين لبناتنا أن يتزوجن من الأفارقة؟"، وأوضحت "ناير" أن الاتهامات التي تُوجَّه إليها بدعوى "تشويه صورة الجالية" تقوم في الأساس على تبنّي نظرة الآخرين لما يجب أن تكون عليه صورة هذه المجتمعات. لكنها أشارت إلى أنها لا تتعامل مع أعمالها من هذا المنطلق، بل تنشغل بتقديم الموضوعات التي تلامسها شخصيًا وتستفزها إنسانيًا وسياسيًا، دون أن يشغلها مدى قبول هوليوود لهذه الأعمال أو رفضه. وعن تجربة الأمومة، أوضحت أنها لم تكن خطة مسبقة على الإطلاق، وأنها شعرت بسعادة غامرة حين علمت بحملها. ولم يقلقها أبدًا أن يكون الطفل من أبوين هندوسي ومسلم، لأن أسرتها، كما تقول، نشأت في بيئة شديدة التنوع الديني وغير متعصبة، ولم تسمع كلمة اعتراض واحدة حين عرَّفت أسرتها على محمود زوجها. وبخصوص الدعم العائلي خلال مسيرتها المهنية، قالت "ناير" إنها لم تلد طفلها في نيويورك لأن شقتها هناك صغيرة ولم تستطع استضافة والدتها وحماتها، وقد كانت تقاليدهم في الهند تقتضي أن تتولى الأم والجدّات رعاية المولود لأول أربعين يومًا، لذلك أنجبت في أوجندا حيث كان يعمل زوجها وقتها — رغم كونها في ذلك الوقت بلدًا تمزّقه الحرب الأهلية — لكي تحيطها الأمهات بالرعاية. وأضافت أن الدعم استمر طوال حياتها المهنية، إذ كانت تنتقل دائمًا ومعها قافلة من ثلاثة من أفراد العائلة: أمها، وحماها، وحماتها، الذين عاشوا معها 25 عامًا، ما منح "زهران" تربية بين أجيال متعددة سواء في نيويورك أو كامبالا أو الهند، وقالت إن هذا النوع من الترابط العائلي هو ما تعتبره " أكبر حرمان" يعانيه المجتمع الأمريكي الحديث. وحول دعمها لخيارات ابنها المهنية، أكدت أنها دعمته دائمًا، وقالت إنها لاحظت مبكرًا انسجامه مع العمل العام حين بدأ كمرشد في شؤون الإسكان، وتعرّف على معاناة المهاجرين مع مشكلات الإيجارات والسكن، ثم اتجه إلى حملات سياسية مختلفة، وانضم إلى منظمة "الاشتراكيون الديموقراطيون في أمريكا" - وهي منظمة سياسية أمريكية يسارية تضم أعضاء يدعمون سياسات العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية، وبعدها ترشح ممثلًا عن منطقة أستوريا في 2020، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه وباء كورونا في الانتشار العالمي، ولأن التواصل المباشر كان صعبًا، اعتمد على أسرته التي كانت تكتب البطاقات وتجري الاتصالات الهاتفية لدعم الحملة. وعند سؤالها عن شعورها عندما أعلن ابنها ترشّحه لرئاسة بلدية نيويورك، قالت إن الأمر كان "مهولًا لدرجة أفقدتها القدرة على الكلام"، لكنها تذكرت بعدها أن والده كتب كتابين مؤثرين قبل سن الثلاثين، وأنها نفسها أخرجت فيلم "سلام بومباي" في عمر الثلاثين، وأن هذا العمر هو وقت المخاطرة الحقيقية. وأضافت أنها دائمًا تشجع الشباب على اقتناص لحظة العشرينيات والثلاثينيات بدل انتظار النضج، لأن أنماط الحياة تكون قد ثبتت بحلول ذلك الوقت. وهنا تطرقت للملاحظة التي تُوجَّه عادة ل "زهران" بشأن صغر سنّه وقلة خبرته؛ قالت إن التفكير في نجاح أعمالها المبكرة ساعدها على الإجابة؛ فهذا هو العمر الذي تُصنَع فيه الأعمال الكبيرة، والإنجاز لا ينتظر التقدم في العمر بل يأتي مع الجرأة المبكرة. وعن كيفية تربية ابن قادر على مواجهة عالم يتعرض لصعود الفاشية وأزمات المناخ، أوضحت أنها وزوجها كانا منخرطين سياسيًا بشكل عميق؛ فكتب الزوج محمود ممداني كلها تتعلق بتحليل حقبة الاستعمار وما بعدها، وأفلامها هي الأخرى ليست أعمالًا رومانسية خفيفة، بل تحمل بنية سياسية. وقالت إن زوجها عالم الأنثروبولوجيا والأكاديمي والمؤلف الهندي، محمود ممداني - والذي شغل عدة مناصب أكاديمية مرموقة ومنها أستاذ علم الإنسان والعلوم السياسية والدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا - تولى إدارة دراسات أفريقيا في جنوب أفريقيا بعد انتخاب نيلسون مانديلا، وأنه خاض مواجهات فكرية كبيرة، وكان الناس يتزاحمون على محاضراته، وكشفت عن أن "زهران" كان حاضرًا في هذه الأجواء الفكرية وهو طفل في السادسة أو السابعة، وقد تربى وسطها. وعن قلقها عليه اليوم، قالت إنها بالطبع قلقة لأن العالم "مجنون"، ولأن عمله العام يتطلب تضحيات تخص حياته الخاصة. لكنها واثقة أنه سيقدم شيئًا جوهريًا ونافعًا. وبسؤالها عن نصيحتها للأهالي الذين يريدون تربية مفكرين ومؤثرين مثل ابنها، أكدت أن "زهران" تشرّب الحب منذ طفولته — من الأجيال المتعددة التي أحاطته — مما منحه ثقة عميقة في ذاته، وأن ليلة فوزه الانتخابي ملأتها مشاعر الفخر والامتنان لأنهم قدموا للعالم شخصًا يمنحه الأمل. واختتمت "ناير" اللقاء بدموع الفخر والفرح إذ تذكرت خطاب قبول "زهران" الجامعي، وتشير إلى أن ابنها المراهق عانقها حين قرآه معًا، وكانا محاطين بأصدقائهما من بنجلاديش وسريلانكا، وجميعهم كانوا يشعرون بأن هذا الشاب "واحد منهم" — أمريكي وابن مهاجرين — وأن اللحظة كانت "غاية في الجمال".