فى جلسة حوارية حول التعليم العالى الخاص فى أحد أقطار الخليج العربى، والتى تنطبق الكثير من مداولاتها على كل الأقطار العربية، وإن بنسب متفاوتة، بيّنت أمام الإخوة الحاضرين الشروط والحدود المتشابكة التى حكمت موقفى تجاه الموضوع عندما كنت وزيرًا للتربية والتعليم فى بلدى البحرين، والتى لا تزال تحكمه، وبقوة أكبر، فى حاضرنا. فأولاً، بالرغم من ميولى اليسارية آنذاك فى الفكر السياسى، إلا أنى لم أجد أى تعارض فيما بين التعليم العالى العام والتعليم العالى الخاص، طالما كانت تحكم الموضوع الشروط والمحدّدات التالية: • ألا ينقلب التعليم العالى الخاص إلى تجارة، هدف القائمين به ومموليه الربح والمردود المتعاظم مع مرور كل سنة تعليمية. عند ذاك ستحكمه التنافسات والادّعاءات الإعلانية وتلاعبات تقليل المصاريف حتى ولو كانت على حساب الكيفية والتساهل فى المستوى والتقييم من أجل كسب المزيد من الطلاب الزّبائن. من أجل منع حدوث ذلك هناك ضرورة لوجود قوانين وأنظمة ومؤسسات تقييم ومحاسبة من خلال وزارات ومجالس تعليم عالى ومؤسسات اعتراف ومجالس أمناء غير مخترقة أو فاسدة. • ألا يقل المستوى الأكاديمى بكل تفاصيله فى جامعات التعليم العالى العام عن مثيله فى التعليم العالى الخاص. ذلك أن وجود مثل هذا التفاوت فى المستوى الأكاديمى، لصالح الجامعات الخاصة، سيؤدى إلى تعليم عالى خاص متميز يحصل عليه أبناء الطبقات الغنية، بينما يضطر أبناء الطبقة الفقيرة والدخل المحدود للاكتفاء بتعليم أدنى فى مستواه وبالتالى إلى تفاوت فى الفرص المعيشية والاجتماعية مستقبلا، وهو ما سيمسّ مبدأ الحراك الاجتماعى فيما بين أبناء الطبقات الفقيرة وأبناء الأغنياء فى المجتمعات العربية. • إن قسمًا كبيرًا من الجامعات الخاصة يرتبط، إدارة ومناهج دراسية واعترافًا بالشهادات وغيرها الكثير، بجامعات أجنبية بهدف جعل شهادات التخرج المحلية مساوية أو مماثلة للشهادات الأجنبية. إن هذا الارتباط يجب أن لا يكون على حساب تعلم وممارسة اللغة القومية، اللغة العربية، ولا يكون على حساب الثقافة العربية التى يجب أن تكون جزءًا من الدراسات الإنسانية المشتركة لجميع الطلبة. هذا موضوع بالغ الحساسية، ذلك أن تخريج طلبة ضعاف فى لغتهم الأم ومنفتحين على ثقافات الغير أكثر من ثقافة أمّتهم سيضعف هويتهم وانفتاحهم على نتاج ثقافتهم المكتوب على الأخص وعلى معرفتهم بالقيم والأخلاقيات التى تبنتها أمّتهم عبر القرون، وعلى الأخص قيم الدين الإسلامى المكون الرئيسى للثقافة العربية. وبالطبع فإن ذلك سيكون كارثيًا أيضًا اجتماعيًا وسياسيًا. وثانيًا، هناك موضوع مقدار تبنى الأفكار والسلوكيات النيوليبرالية العولمية، السياسية والاقتصادية على الأخص، التى تتبناها وتعمل بها مختلف أنظمة الحكم فى الأقطار العربية، والتى أصبحت مفروضة على العالم كله. ذلك أن لها تأثيراتها الهائلة على نظام التعليم برمّته، بما فيه التعليم العالى. إن ذلك النظام القائم على آليات السوق، التى تحكم كل شىء دون تدخل من الدولة، والتى تهدف إلى تخفيض عجز الموازنة العامة من خلال السيطرة على النفقات العامة والاستثمار فى المجالات الاجتماعية، وعلى رأسها التعليم، ذلك النظام المؤدى إلى تنشيط آليات السوق التى تقود إلى أكبر قدر من خصخصة الخدمات، بما فيها قطاع التعليم، وبالتالى الابتعاد عن مسئوليات دولة الرعاية الاجتماعية التى كانت فى الأساس لخدمة الطبقات الفقيرة والمهمشة وذات الدخل المحدود... إن تبنّى تلك الأفكار والسلوكيات النيوليبرالية سينسف كل التوازن والتناسق فيما بين التعليم العالى العام والخاص الذى فصل فى الفقرات السابقة. وها أننا نرى اليوم أمامنا الكثير من السلبيات والمشاكل المتراكمة فى حقل التعليم العالى الخاص. بصراحة فإن الخروج من الإشكاليات النيوليبرالية التى ذكرنا، والتى لم نذكر، ستحتاج إلى استراتيجيات سياسية واقتصادية عربية مشتركة. وهو هدف أصبح ملحًّا إلى أبعد الحدود كما بينه الكثير من الكُتاب والإعلاميين والمثقفين الملتزمين عبر الوطن العربى كله.