ظهور اللغة، مهما كانت التفسيرات لهذا الظهور، ثورة من أخطر الثورات فى التاريخ، فبها تفهم الواقع، وتزداد فهما له كلما اتسعت أطراف اللغة، وكلما ظهرت مكنونات الواقع للبشر. ولو اقتصرت على معالجة الواقع، وتلبية الحاجات ضمن هذا التفاعل بين البشر والبيئة، لعادت بما يرقى بالفرد فى علاقته بنوعه، لكنها امتدت لتكون وسيلة خلق وابتداع، فبها ظهرت عوالم لم تسمع بها أذن، ولا رأتها عين، إلى درجة ابتكار مخلوقات وهمية، تتحكم بها اللغة وتجعلها رهن الرغائب، فكانت وسيلة للاستعباد، كما كانت وسيلة من وسائل التحرر. وقد اخترنا كلمة الوهم وليس الخيال، لأن الخيال قد يكون تركيبًا لعناصر واقعية لغرض فنى، بينما الوهم محاولة فرض سلطة بمفهومات غيبية مضللة. الخيال تجميل للواقع، لكنه يتحول إلى وهم مهين حين تحميه القداسة. فاللغة كون يتناسل بحسب الرغبات والأهداف البشرية، الجمعية والفردية. اختلقت لنا اللغة الكثير من مواليدها الوهمية والباطلة، بل إن هذه المواليد تحكمت فى البشرية أكثر مما تحكمت فيها الحقائق والتجارب، وبدلًا من البحث عن الأثر استسلمنا للخبر. ولو نظرنا بعين صافية محايدة إلى التاريخ، لعجبنا كيف ملأته اللغة بالزيف والبهتان والوهم والتضليل، حتى بات تنظيف التاريخ اليوم أصعب من اكتشاف الإكسير الذى يحول المعادن إلى ذهب. وتسهم الطبقات فى صنعها، ولكل طبقة طريقتها فى استخدام هذه الوسيلة، التى أثبتت أنها من أشد الوسائل فاعلية. أولى الضحايا نظن أن المرأة كانت أولى الضحايا لهذه الأوهام المحاكة والمصنعة، وذات القصدية والاستهداف المحدد. وتكمن المأساة فى أن المرأة نفسها سارت مع هذه الأوهام، وصدقتها، من دون أن تعى أنها شوهتها، ولم تسترد وعيها إلا فى العصر الحديث، فاكتشفت أن الذكر زيف تاريخها، وأن الأوصاف التى أضفاها عليها كانت أوصافا استهدافية، هدفها الإتباع لا الإبداع. لسنا غافلين عن أن ثمة عوامل أخرى، غير اللغة، تقوم بدور كبير فى تطويع المرأة وجعلها أقرب إلى التابع منها إلى الشريك، لترسيخ القناعة بالتبعية. إن التقسيم الأول للعمل كان بين الجنسين، فجعل السيادة للمرأة، فاستمرت مرحلة الأمومة آمادا طويلة؛ ولما تقدمت الزراعة انتقلت السلطة إلى الرجل ففرض أيديولوجيته. إننا نعلم أن كل الوظائف التى كانت بيد المرأة نقلها الرجل إليه، ونزع منها كل شىء، عدا الولادة والحضانة.. حتى الأبناء كانت الأم تلدهم، والأب يلحقهم به، كأنه هو الذى عانى المخاض.. لكن هذه تعود إلى أسباب واقعية، فحين يتغير أسلوب الإنتاج، لا بد أن ينعكس ذلك فى البيئة الاجتماعية، وحين تندلع الحروب ينتج عنها الجوارى والقيان والغلمان.. ما نتحدث عنه يعود إلى أشياء معنوية تمامًا، تتعلق بالنفس أكثر مما تتعلق بمفردات الحياة المادية، فى شتى الميادين. غرضنا التأكيد على أن تأثير الأوهام فى المرأة كان له من الفاعلية، بحيث اشتبه بالواقع، والسبب ليس فى هذه الأوهام وحدها، بل فى أن المرأة صدقتها. نظرة سريعة فى شعر الغزل تدلنا أن هذا الشعر أقرب إلى الوهم، وهو يكاد يشكل الاتجاه الغالب فى الشعر. أجمع الشعراء على حسن المرأة وجمالها، فصدقت المسكينة ذلك، وصارت تهتم بنفسها وتزجج حاجبيها، وتلمع خديها، وتعلق الأقراط فى أذنيها، وتطرى جيدها.. كل ما طلبه الرجل منها كانت تصدقه وتلبيه، وتعمل وفق أهواء الشعراء وأوهامهم. ولو نظرت، كما يقول شوبنهاور، إلى المرآة قبل الطلاء والزينة.. وقارنته بجسد الذكر.. أو نختصر ونستعير كلام داروين، لو نظرت إلى كل المخلوقات الحية لعرفت أن الذكر يسبق الأنثى فى ما تتباهى فيه، يكفيها نظرة واحدة إلى الديك والدجاجة، أو الطاووس وأنثاه.. لتجد أن الأنثى ليست مثلما يوحى لها الذكر.. فلماذا تستثنى هى من بين سائر الأحياء؟ أما كان يجب أن فتفكر فى الكلام الذى يقال، وتعقل الوضع الذى هى فيه، حتى لا يستدرجها الوهم لتكون أمة الذكر؟ لنفرض أن إحداهن سمعت هذا الشعر: عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء كالورد، كابتسام الوليد يا لها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود يا لها من طهارة تبعث التقديس فى مهجة الشقى العنيد يا لها رقة تكاد يرف الورد منها فى الصخرة الجلمود أى شىء تراك، هل أنت «فنيس» تهاوت بين الورى من جديد؟ وقبل أن تنظر فى المرآة، تؤمن بصدق أنها ربة الحسن والجمال المدهشة، وأنها نعيم الحياة وسعادتها، وأنها الفجر والصباح المشرق، وأنها «نور الحياة». ولو أنها انتبهت إلى أن جائزة «كمال الأجسام» لا تمنح إلا للرجل، حيث يكتفى بعرض جسده فقط، بينما خصت هى بجائزة الجمال، فتختبر أولًا فى وقفتها ومشيتها وجلوسها والتفاتتها؛ بيد أن نجاحها فى هذا لا يكفى، فإن لم تتقن عذب الحديث، وسلامة المنطق، والتلطف فى النطق، واتزان الوعى، إلى جانب الالتفاتة الناعمة، والنظرة الساجية، والمشية الهادئة الرزينة والانعطاف الرقيق، والابتسامة المريحة - وهى مقاييس فتاة الجيشا بالضبط - نحيت وأبعدت، مهما كان حسنها رفيع المستوى، فالحسن يتلقاه النظر، أما الجمال فمن حظ النفس. جمال اللطف يحتفظ بإشراقه، ولو فى سن السبعين. أما حسن الجسد فيذهب، مهما سعت للإبقاء عليه بعمليات التجميل. لذا ناشد شكسبير الزمن ألا يحفر خطوطه فى جبين الحبيب، وليس عبثًا أن قال النواسى: لها من الظرف والحسن زائد يتجدد. وبقى الكثير من الكتاب - ونخص منهم الشعبيين - يحرصون دائمًا على استخدام «ربة الحسن والجمال» لجمع الطرفين الجسدى والنفسانى، وإن غدت الكلمتان مترادفتين فى هذه الأيام. ما نريد إظهاره أن المرأة، بظروفها المفروضة، باتت تصدق بسرعة تلك الصفات التى يريدها الرجل فى المرأة، وتسرع إلى اصطناعها، فإذا شاع عن الرجل أنه يستحلى النحافة والتخصر.. عمدت المرأة إلى اصطناع ذلك فى جسدها، فنحفته وشدت خصرها، وإذا أرادها عبلة دعجاء، عمدت إلى اصطناع ذلك، حتى تحسن «فى عين سيدها». وعندما استملح الغلمان، اتخذت لباس الغلمان وتسريحة شعورهم، وقلدتهم فى مشيتهم، كأنها لا تشبه نفسها. إنها فريسة وهم، وقعت فى المصيدة. ربما لو لم يمتدح الشعراء بياض السن لما تسوكت، ولو لم يمتدحوا طيب العرف لما تعطرت، ولو لم يطروا الثوب الهفهاف لما اتخذته زينة.. فكل ما يأتى على لسان الذكر يتحول إلى وصفة طبية للحسن والجمال تلتزم بها المرأة، كأنها وجدت لتكون «مقبولة بعينى رجلها»، ولو كان عتريفا، كما توصى بذلك أديان عدة. ولو ذهبنا أكثر من ذلك، لقلنا إن الرجل لا يكتفى بهذا، بل يوحى لها بالزى العريض أو الضيق، الطويل أو القصير، المزخرف أو البسيط، الكثير الألوان أو المكتفى بلون واحد، وتكفى الإشارة هنا إلى ذلك التاجر الذى شكا للشاعر أن الوشاح الأسود لا تشتريه غانية، ولا تنظر إليه عابرة، فرشاه بالمال.. فنظم: قل للمليحة فى الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد؟! فاستلمها الرواة والمغنون، وأشاعوا هذه القصيدة، فلم تبقَ فتاة ولا امرأة إلا ارتدت الوشاح الأسود، فنفقت البضاعة وربح الشاعر، وخسرت المرأة، كعادة الضعفاء عندما يصغون لأصوات من عالم الوهم والمكيدة. ولو كان الرجل يرى العبوس من سمات الحسن والجمال، لما ظهرت بسمة على ثغر أنثى. قد نجد فى بعض الآثار الأدبية اتهامات أخرى كالغدر والخديعة.. لكنها قليلة بالقياس إلى الكم الهائل من الصفات البراقة المغرية التى تستدرج المرأة إلى موقع التصديق فتضعف وتقتنع، فتستعبد بالطواعية، لا بالقسر، كأن اللغة هنا وسيلة للتطويع، وكأن المرأة دمية للتصنيع. أصوات من وراء المتاريس يبدأ التحرر فى رأى «إيما جولدمان» بعدم الإنجاب، وترى «جيرمين جرير» أن «المرأة المخصية» (التى تتخلى عن أنوثتها أو وظائفها البيولوجية) أول خطوة نحو التحرر، وتبالغ «سوزان سونتاج» فتدعو إلى «معسكر الحب غير الطبيعى: البذاءة المصطنعة، والمبالغ فيها».. ألسنا أمام أنواع جديدة من الأوهام؟.. أليس الحل رهنا بمجرى الحياة؟ فلماذا نستبدل المعلوم بالمجهول؟ وكما بنينا -مما توهمنا طريقا لحريتنا- مزارات الإغريق، وهياكل بابل، ومعابد مصر، وحظائر العبيد.. تعود وتسيطر علينا أنواع جديدة من الوهم، فنبنى حضارات نرقص لها، فإذا أرهقتنا قمنا بشتمها وتدميرها، وعدنا إلى فبركة أوهام جديدة. يقال إن الإغريق سبقوا العالم إلى الحل عندما كتبوا على جدران دلفى ثلاث جمل: اعرف نفسك -لا تتطرف- الكمال محال.. لكنهم فشلوا فى حلولهم بسبب أوهامهم. يبدو أن المشكلة ليست مشكلة المرأة، بل مشكلة الأدوات المتداولة، وفى طليعتها اللغة، مزرعة الوهم الكبرى. وربما نكون هنا أيضًا فى وهم. وهكذا يظل الوهم، الذى نستخدمه فيستخدمنا، إلى أن تتمكن البشرية من حصره فى حديقة الفن وحدها، لتصنيع الفرح والمسرة، بعيدًا من قداسة الأوهام المغرضة. حنا عبود مؤسسة الفكر العربي النص الأصلى: