تجارب الأمن الإقليمى الناجحة ودروسها المستفادة للشرق الأوسط

إن التفكير فى إطار شامل ذى أبعاد أمنية واقتصادية وإنسانية للشرق الأوسط يمثل الأمل الوحيد لمنطقتنا فى سلام طويل الأمد واستقرار إقليمى حقيقى.
وتتوقف جدوى مشروع جماعى تقوده دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وتركيا، وإسرائيل، وإيران، على قدرتها على تجاوز عدد من العقبات الجوهرية، من بينها انعدام الثقة المتبادل، وتضارب الأهداف الاستراتيجية، وتباين السياسات الحكومية. ورغم أن هذه التحديات قد تجعل من التعاون الكامل أمرًا غير مرجح، فإنها فى المقابل تفتح المجال أمام شراكات محدودة تقوم على تحالفات ظرفية بين مجموعات فرعية من هذه الدول.
ولفهم أفضل لإمكانيات الأمن الجماعى الفعلية فى الشرق الأوسط، من المفيد دراسة تجارب كتل إقليمية مختلفة حول العالم، ودورها فى تسهيل التجارة والتنقل والتعاون بين أعضائها، مما يسهم فى منع النزاعات وتعزيز الأمن.
من أبرز هذه التجارب: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وتحالف المحيط الهادئ، والحوار الأمنى الرباعى (الكواد)، ومنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا (OSCE)، والاتحاد الأوروبى.
أولا: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)
تأسست آسيان عام 1967 بمبادرة من إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند لتعزيز التعاون الإقليمى فى مختلف القطاعات. وتضم حاليًا كلًا من بروناى وكمبوديا وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام. يقع المقر الرئيسى للرابطة فى جاكرتا، وترسل الدول الأعضاء ممثلين دائمين إليه. وتسعى الأمانة العامة لآسيان إلى تعزيز تنفيذ الأهداف والخطط المشتركة، من خلال تمكين العمل الجماعى والتركيز الكامل على المهمة المؤسسية المشتركة.
كيف تعزز آسيان التجارة؟
توجد منطقة تجارة حرة تُدار من قبل وزراء الاقتصاد فى آسيان. وتوجد أيضا منطقة الاستثمار الخاصة بآسيان (AIA) ولجنة مركزية مصرفية ولجان فرعية للتعاون الاقتصادى القطاعى (كالزراعة والطاقة والمعادن والسياحة والعلوم).
ما هو حال التنقل بين دولها؟
يُسمح لمواطنى دول آسيان بالبقاء فى دول الرابطة الأخرى لمدة 14 يومًا على الأقل دون تأشيرة لأغراض السياحة أو الأعمال ويشترط فقط وجود جواز سفر سارى.
كيف تُمنع النزاعات فى آسيان؟
تُعرف خطة منع النزاعات باسم «النهج الآسيانى» (ASEAN Way)، وتعتمد على مبدأ عدم التدخل وبناء التوافق. وتُستخدم فكرة الهوية الجماعية لتعزيز هذا التوافق. غير أن فعالية هذا النهج تعتمد على النجاحات الدبلوماسية الفردية مما يضعف من طابع آسيان المؤسسى.
ثانيا: تحالف المحيط الهادئ
تأسس هذا التحالف عام 2011 من قبل تشيلى وكولومبيا والمكسيك وبيرو. ورغم غياب مقر رسمى أو هيئة حاكمة مركزية، يعقد التحالف قمة سنوية لقادته لتجديد التزامهم بالسلام والأمن المشترك. ويعزز هذا التحالف عمليات الاندماج بين الدول الأعضاء، مما يحفز الاستثمار الخاص.
كيف يعزز التجارة؟
يُدار كمنطقة تجارة حرة ويعزز قدرات اقتصادات صغيرة على التفاوض جماعيًا مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والصين.
ما هو حال التنقل؟
يتمتع الأفراد بحرية التنقل بين الدول الأعضاء.
كيف يُسهم فى منع النزاعات؟
رغم تركيزه الأساسى على الاقتصاد، فإن خلق أهداف اقتصادية مشتركة يُعد عامل ردع للنزاعات. ويمتلك التحالف شراكات رسمية مع كتل إقليمية أخرى مثل الاتحاد الأوروبى والميركوسور وآسيان.
ثالثا: الحوار الأمنى الرباعى (الكواد)
تأسس الكواد فى 2007 لكنه بقى خاملًا لعقد من الزمن بسبب تحفظات أستراليا بشأن علاقتها مع الصين. أعيد إحياؤه عام 2017 بمشاركة الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وشهد أول اجتماع حضورى عام 2021، والذى استمر بعدها بانتظام. فى عهد إدارة ترامب الأولى عُقدت الاجتماعات افتراضيًا، بينما أعطت إدارة بايدن الأولوية للقاءات المباشرة ذات الطابع الاستراتيجى، فى ظل التنافس مع الصين خلال فترة جائحة كورونا وما تلاها.
كيف يعزز التجارة؟
يدعم تطوير البنية التحتية وسلاسل التوريد، لكن لا يمتلك أهدافًا اقتصادية واضحة على المستوى المؤسسى.
ما هو حال التنقل؟
لا يوجد نظام للتنقل الحر بين أعضائه، وذلك على الرغم من وجود تسهيلات ثنائية.
كيف يُسهم فى منع النزاعات؟
ينظم تدريبات بحرية مشتركة بين دوله مثل «مالابار» وهدفها الأساسى الحيلولة دون تمادى القوة الصينية، وينظم أيضا حوارا دبلوماسيا مستمرا بين أطرافه. غير أن آليات متقدمة أو شاملة لمنع النزاعات تظل غائبة.
يفتقر الكواد إلى قيم أو مقاربات مشتركة حول النزاعات، مما يحدّ من عمق التعاون رغم استمراره.
رابعا: منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا (OSCE)
تضم المنظمة 57 شريكًا من أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية لتعزيز الأمن الإقليمى. يقع مقر الجمعية البرلمانية فى كوبنهاجن، وللمنظمة مكاتب فى جنيف ولاهاى وبراج ووارسو، بينما يقع مقر الأمانة العامة فى فيينا. تنقسم المنظمة إلى مؤسسات تُعنى بحقوق الإنسان، وحرية الإعلام، وتسوية النزاعات عبر محكمة المصالحة والتحكيم.
كيف تعزز التجارة؟
تنفذ المنظمة بعثات ميدانية لدعم إصلاحات اقتصادية وطنية وتحسين مناخ الاستثمار والتنمية المستدامة وتدريب منظمات المجتمع المدنى ودعم التجارة عبر الحدود وتشجيع الاقتصادات التكنولوجية والمعرفية والصناعية والزراعية وتعزيز الحوكمة الفعالة.
ما هو حال التنقل؟
لا توفر منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا نظامًا خاصًا للتنقل، لكنها تسعى إلى توحيد معايير الوثائق لتسهيل انتقال الأفراد وملاحقة الجريمة المنظمة.
كيف تُمنع النزاعات؟
تمتلك المنظمة آلية رسمية لتسوية النزاعات هى «محكمة المصالحة والتحكيم» فى جنيف ويمكن لأى دولة تفعيل هذه الآلية من طرف واحد، ويُصدر تقرير نهائى يتضمن توصيات تُعرض على الأطراف المعنية. وإن لم يُتوصّل إلى اتفاق خلال 30 يومًا، يمكن تشكيل هيئة تحكيم تصدر حكمًا ملزمًا.
خامسا: الاتحاد الأوروبى
يستند الاتحاد إلى «السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة» (CSDP)، المنبثقة عن معاهدة لشبونة (2009)، والتى تتضمن بنودًا للتضامن والمساعدة المتبادلة، وأسست جهاز التمثيل الخارجى الأوروبى (EEAS). يشارك الاتحاد منذ 2003 فى مهمات خارجية لحفظ السلام وتسوية الصراعات منذ 2003 عبر 3,500 عنصر عسكرى و1,300 مدنى. وفى عام 2017، أُنشئ جهاز التخطيط والقيادة العملياتية (MPCC) لتعزيز الكفاءة. كذلك تأسس «صندوق الدفاع الأوروبى» فى 2017 لدعم البحث والتطوير العسكرى، وفى 2021، أُنشئت «آلية السلام الأوروبية» (EPF) بتمويل خارجى لتغطية التكاليف المشتركة للمهام الأوروبية وشركائها. ويعد حلف الناتو عنصرًا تكميليًا فى البنية الأمنية الأوروبية؛ حيث تتقاطع أهدافه مع أهداف الاتحاد. وقد ساهم الناتو فى إعادة تشكيل الرؤية الأمنية للاتحاد الأوروبى خلال العقد الأخير حيث دفع التغير فى السياسات الأمريكية الأوروبيين إلى البحث عن تطوير قدرات الدفاع والأمن الخاصة بهم هم. بشكل عام، يُدار الأمن الإقليمى فى الاتحاد الأوروبى عبر مستويات متعددة، لكنه يخضع لتنسيق مؤسسى محكم ويُموّل عبر الميزانية العامة للاتحاد بالإضافة إلى مساهمات الدول الأعضاء.
ويتمتع الاتحاد الأوروبى بحريات تجارة وتنقل واسعة تشمل جميع الدول الأعضاء.