- اختلف مع عبد الناصر لكنه لم يفقد إيمانه بأنه منحاز للفقراء - السلطة الناصرية اعتقلته عام 1966 وهو يعمل معها بالمعهد الاشتراكي - مجموعة المشير عامر اتهمته بتأسيس تنظيم للقوميين العرب في مصر - هيكل علم من شمس بدران أن والدى في طريقه للتعذيب بالسجن الحربي فأخبر عبد الناصر فعاد إلى المنزل في اليوم التالي مع تحديد إقامته - كلية التجارة حرمته من منحة السفر للدراسات العليا فباع فدانين من ميراثه للدراسة في أمريكا - جدتي زارته في سجن القناطر عقب اعتقاله عام 1956 فطالبها بالصلابة - فصل من هيئة ترديس الجامعة بدعوى أنه " شخصية قوية تؤثر على الطلاب" - غير مفهوم العمل الرقابي عندما اختاره زكريا محي الدين للعمل في الجهاز المركزي للمحاسبات - الشباب اليساري يختلف مع والدى بشأن الموقف من الثورة بعد النكسة وعندما ناقشته أعطاني درسا في معنى الانتهازية السياسية والشعبوية - اشتهر بين نساء العائلة بأنه نصير المرأة فقد أمن بالمساوة بين الجنسين - أحيل إلى المعاش في سن ال46 عماما عقب الحكم بسجنه مع وقف التنفيذ في قضية مراكز القوى التالية لأحداث 15 مايو - لا أنسي قول جدتي: "أبوك إذا جتله الفلوس من الباب ينط من الشباك" فقد كان يرى السعادة في الرضا - معارفه لم تقتصر على السياسة والاقتصاد بل كان عاشقا للتراث محبأ للشعر العربي منذ مائة عام (25 مايو 1925) ولد أبي الدكتور إبراهيم سعد الدين عبدالله، وتوفي في 18 سبتمبر 2008 لقد كان الوالد نموذجا حقيقيا للإنسان الاشتراكى، كما قرأت عنه فى الكتب وفى العمل العام، وكان والدا عظيما وزوجا نموذجيا وأيضا مثالا للعطاء والوفاء والحب.
ولد أبى، الابن الأكبر بعد 5 بنات لوالده المستشار عبدالله بك محمد ولأمه السيدة نبوية سليمان زيتون. وكان دائما يوصف بالتواضع وبالرغبة فى العلم والمعرفة. وكان وهو صغير دائم النقاش مع والده حول الفقراء والفلاحين وما يحصلون عليه. توفى أبوه فأعجب الابن بصلابة أمه وقدرتها الفائقة على إدارة الأسرة. تخرج في كلية التجارة سنة 1945 وألهبته أحداث الطلبة والعمال وارتبط بالحركة اليسارية عن طريق "لجنة نشر الثقافة الحديثة" التى كان عضوا فعالا فيها. وفيما يبدو فإن هذه اللجنة كانت شديدة النشاط لدرجة لفتت أيضا انتباه السفارة الأمريكية التي أبرقت في 18 سبتمبر 1946 بمذكرة طويلة عن هذه اللجنة تضم أسماء 62 من أعضائها.. وبينهم إبراهيم سعدالدين. كان أبى معيداً في كلية التجارة، ولكنه لم يمنح بعثة للسفر للخارج لاكمال دراسته العليا لاسباب سياسية، حيث فضلت الكلية عليه في بعثة علمية من كان من بين تلاميذه. وكان هذا أول سلسلة من الاستبعادات عاشها طيلة سني عمره. تلقي الأمر بهدوء وقال لئن ضنوا علي بحقي فسوف أسافر علي نفقتي الخاصة. فما كان منه إلا أن باع الفدانين اللي ورثهم من والده وسافر إلى أمريكا للحصول على الدكتوراة في إدارة الأعمال. وعندما أتم دراسته أوصى أساتذته الأمريكان بأن يستفاد منه في البحث العلمي لأنه يتمتع بعقلية تحليلية رفيعة وعرض عليه البقاء في أمريكا ولكنه رفض وعاد إلى مصر مباشرة بعد إكمال الرسالة، وبعد 7 أشهر من عودته تم القبض عليه. وتحكي أمه عنه يوم أن زارته أول مرة في سجن القناطر الخيرية سنة 1956 وخاطبها بالحب والصلابة ولعلها أيضاً رعونة الشباب "أمي أنتِ جاية ليه .. طول ما الحكم القائم دا موجود فأنا لن أخرج". وطبعاً الست زعلت جداً ولكنها أحست بصلابته. حدث هذا فى سجن القناطر حيث كانت الزيارات متقطعة ولكننى أذكر يوم أن سمح لى الصول المشرف على الزيارات أن أكون معه خلف السلك وهو شايلنى على زراعيه وأنا ملتصقا برقبته ووجهه، وهو متحدثا إلى أمى وجدتى فى نفس الوقت. وتمر السنون وبعد سبعة عشرة عاما كنت استقبل أنا الزيارات من نفس المكان! وخرج من السجن بعد تأميم قناة السويس وانخرط في صفوف الدفاع المدني، وعاد إلي صفوف مدرسّي كليته ، فإذا بمراكز الضعف التي حاربته قبل الثورة تواصل اضطهاده بعد قيامها، فصدر قرار بفصله من هيئة التدريس بدعوى "أن له شخصية قوية تؤثر على الطلبة".. ومع ذلك ظل متمسكا بمبادئه معتزا بكرامته. والتحق بعد ذلك بوزارة التربية والتعليم، حيث اكتسب معرفة واسعة في كيفية تنظيم ووضع المناهج للطلاب وإدارتها، ،ثم انتقل ليعمل سكرتيرا عاما لمعهد التخطيط القومي، وبفضله أمكن إقامة جهاز للمعهد يتصف بالكفاءة، وعندما أنشئ معهد الإدارة العامة تم اختياره أمينا عاما له، ومرة أخري ساهم في البناء، وفي إقامة صرح آخر كان له شأنه في تنمية القدرات البشرية لتتحمل أعباء التنمية التي كانت حقلا جديدا في ذلك الوقت. وكان المعهد تحت إشراف زكريا محيي الدين، الذي ترأس في 1964 الجهاز المركزي للمحاسبات الذي اختاره لرئاسة الإدارة المركزية لمتابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء. ومن ثم عمل على تغيير مفهوم الرقابة، ليتحول من اصطياد الأخطاء وإنزال العقاب، إلى تحسين الأداء وبناء القدرات، وأنجز الكثير بالعدد المحدود من العاملين الذي تم تعيينهم في ست إدارات عامة كانت تحت إشرافه. كان مؤيداً لعبد الناصر حين تبنى الاشتركية ولكنه كان واضح الرأي ناقدا لما لا يراه صحيحاً، وتم اختياره كأول مدير للمعهد العالي للدراسات الاشتراكية، وعضوا بالأمانه العامة للاتحاد الاشتركي: يعني كان علي رتبة وزير. "ولكننا ماشفناش حاجة خالص مما يمكن أن تتصوره أن يكون للوزير". وقد كان متحمسا بشدة لهذا الدور التثقيفى والتعليمى. فكان خير مكان تظهر فيه مواهبه الفذة في التحليل وإسهاماته العميقة في الفكر الاشتراكي، وعلى يديه، هو، ورفاقه فى المعهد، تدربت أعداد هائلة من الكوادر السياسية وازداد وعيها بالاشتراكية وبالفكر الجدلى العلمى. قبضت عليه السلطة الناصرية وهو يعمل معها 1966، وهو في عمل ميداني للمعهد الاشتراكي، واتهموهً بعمل تنظيم للقوميين العرب في مصر. وكان هذا اتهام كاذب من مجموعة المشير عبد الحكيم عامر في صراعها مع قوي اليسار في السلطة. وحين علم الأستاذ محمد حسنين هيكل بالقبض عليه اتصل فوراً بشمس بدران أو الأخير قال له: "أيوه قبضنا عليه وهيتكلم الليلة" حيث كان متجهاً إلى السجن الحربي تمهيداً للتعذيب. فما كان من الأستاذ هيكل إلا أن اتصل بالرئيس عبد الناصر الذي أمر بتحويله إلى الداخلية بدلاً من السجن الحربي حيث حقق معه شعراوى جمعة وعاد للمنزل ثانى يوم مع تحديد لإقامته. ورفض العودة إلى عمله في المعهد الاشتراكي إلى أن التقى بالرئيس جمال عبد الناصر الذي أوضح له لماذا تم اعتقاله وشرح له بأنه ابن هذا الشعب ويعلم ما يريده ولكنه يعادي الحزبية، ومن ثم لو تحركت أي مجموعة لعمل حزب سياسي حتى لو كانت مهمتهم الرئيسية هي تأييد جمال عبد الناصر فسوف يعتقلهم، واختلف مع عبد الناصر ولكنه لم يفقد يوماً إيمانه بانحياز عبد الناصر للفقراء وظل جندياً لنشر الاشتراكية والعدالة رغمأ من عدم رضا النظام. اتهمه بعض اليساريين باليمينية واتهمته الحكومة والسلطة باليسارية، وقد كان في جميع الأحوال صادق التعبير عن آرائه ولا يحيد أبداً عن النطق بما يراه صحيحاً حتى ولو كان في الأقلية. أتذكر يوم أن دُعيَّ في الاتحاد الاشتركي بالدقي في أوائل عام 1968 وكانت الدعوة موجهة من الشباب اليساري (وأنا واحد منهم) وكان الحوار الدائر في مصر حينئذ حول موقف الثورة بعد النكسة، وكان رأينا أن على عبد الناصر اتخاذ المزيد من القرارات الاشتراكية. حيث دعونا الوالد باعتباره من زعماء اليسار ليؤكد هذا الرأى في محاضرته، ولكن الذى حدث أنه أحبطنا لأن رأيه كان أننا فى مرحلة كفاح وطني تتطلب وحدة كل القوى الوطنية في مصر. ومن ثم فلا ضرورة إلى المزيد من التأميمات، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذا الرأى – فأنه بدأ الحديث مدافعاً عن وجهه نظره التي كانت مخالفة للقاعة، بل، وهو الأهم، مفاجئة لنا جميعاً نحن الشباب اليساري. فإذا بالحوار يدور ساخنا بيننا وبينه حول هذا الأمر. ليس المهم هنا نتيجة الحوار إنما الأهم هو ما دار بيني وبينه بعد انتهاء اللقاء، حيث سألته لماذا لا تقول ما يريده المجموع وقلت إنه بموقفه هذا قد يفقد شعبيته؟. ولن أنسى طيلة عمري رده عليَّ الذى بدأه بشرح طويل عن معنى الانتهازية السياسية والشعبوية، وقال إن أهم ما يميز الثوري والإنسان هو صموده خلف آرائه مهما كانت معزولة، فله أن يغيرها إذا اقتنع بغيرها ولكن لا يغيرها بهدف أن يصبح أكثر شعبية. أعلم أن أبى كان دائماً محل احترام الجميع إلا أنه لم يكن بالضرورة محل رضا البعض، في السلطة أو غيرها، ممن يعلمون أنه إذا اختلف معهم في الرأي فسوف يكون دائماً واضح الموقف والخطى. بالنسبة لي كانت هذه القصة مفصلاً رئيسياً في حياتي الشخصية، ومن يعرفني على أي مستوى يعلم أنني دائم الدفاع عما آراه صحيحاً حتى حين أكون في الأقلية سواء كان هذا في الطب أو السياسة. كان مثالا يحتذ به فى القيام بكل الواجبات الأسرية، كان مؤمنا بالمساواة دائماً بين المرأة والرجل، وكانت شهرته بين نساء الأسرة الكبيرة بأنه نصير المرأة تلجأ أي منهن إليه فى الشدائد وفى الأزمات. كان زوجاً نموذجياً ليس فقط في أخلاقه العامة بل كان أيضاً مشاركاً في جميع الأعمال الأسرية والمنزلية إلى جانب رفيقه عمره، أمى، السيدة علية حسن حسني. كان دائم الاهتمام براحتنا جميعاً ولا أنسي أنه كان عند الظهيره يجمعنا نحن أولاده بعيدا عن حجرة نومه ونوم الوالدة، حيث إنها كانت تنام الظهر ونومها خفيف. وكان يتحدث معنا ويحكى لنا القصص ويسمع منا، مطمئنا حتى لا تستيقظ الوالدة من نومها. كانت المساواة في المعاملة بيننا أنا وأخي زياد نحن الأولاد وأختنا منى البنت قيمة واضحة السمات في منزلنا، مارسناها طوال حياته دون أى تفرقة سواء فى السهر خارج المنزل أو التثقيف أو التعليم أو الارث. أبان أحداث 15 مايو 1971 تم القبض علينا بتهمة التأمر لقتل أنور السادات وكان هذا بلاغ كاذب يقول أن كلٍ من فريد عبد الكريم ومحمود السعدني والوالد اتفقوا على المهمة وقرروا أن يقوم بها العبد لله والأستاذ محمد خليل. واقتحمت مباحث أمن الدولة منزلنا يوم 18 مايو ولن أنسى يومها موقف والدتي العظيم، حين تم التفتيش من قبل المباحث لينتهي الأمر بهم بالقبض على زوجها وابنها الأكبر في تهمة لقلب نظام الحكم. كانت أمى مثالا للصمود والصبر والعزيمة فى هذه اللحظات الصعبة على أى انسان. كان والدي إنسانأ عظيمأ لأن الوالدة كانت عظيمة معه ولم تتوقف يوماً عن مسانتدتنا حتى وأن نصحت بالتروي (بلاش كدة أو كدة) ولكن عند الجد فهي الجدار الصلب الذي نستند عليه جميعا. لم يعترض أبى يوماً علي انشغالى في السياسة ولعلني من القلائل الذين يفتخرون انهم دخلوا السجن مع أبيهم، ولكنه كان دائم الحرص على، وكان دائماً ما يفتش خلفي. وكل منشور أحضره البيت وأُخفيه يجده، ثم يقول لي إذا أنا وجدته يبقي البوليس سوف يجده. ولم يكن ينام الليل حتى أصل إلى البيت حتى يطمئن انني لم يقبض عليّ (يعني أنا أبقي بلعب كوتشينة مع صحابي وهو متيقظ منتظر مصيبة). أُحيل إلى المعاش في سن 46 سنة بعد أن حكم عليه بسنة سجن مع إيقاف التنفيذ في قضية مراكز القوى التالية لأحداث 15 مايو. وذهب للعمل في الكويت كخبير لهيئة الأممالمتحدة مشرفا على إنشاء معهد التخطيط في الكويت. واستمر هناك لمدة ثمان سنوات. ولما بدأ أخي وأختي الدراسة الجامعية في مصر قرر العودة إلى الوطن رافضاً عروض سخية للبقاء في الكويت بما في ذلك الأممالمتحدة التي لو كان استمر في العمل معها سنتين آخرتين لاستحق معاشا كاملا منها وعلاج بالمجان له ولأسرته مدى الحياة ولكنه ترك هذا كله للعودة للوطن ولحزب التجمع. أخذ مكافأة المعاش المبكر وأضافها إلى ما ادخره في الكويت ثم قسمهم على أربعة (أنا وأخى وأختى بالتساوى وأعطاهم لنا بعد التخرج مع بداية الحياة الزوجية لكل منا) أما الجزء الرابع فكان للوالدة وعاش كلاهما عليه بالإضافة إلى المعاش الشهرى المتبقى. إن أهم ما يميز أبى هو النقاء والتواضع والرضا أما عن النقاء فلم آره يوماً يكذب أو يتأمر. وكان كما وصفه الدكتور عمرو محيي الدين "لم تكن له مشكلة شخصية مع أحد، لم يسيء إلى أحد ولم أره يوما يغتاب أحدا، وكان متسامحا حتى لمن يسيئون إليه. أما البساطة فيعرفها كل من تعامل معه فقد كان بسيطا في مأكله، بسيطا في ملبسه، بسيطا في كل جوانب حياته، كان متقشفا كالرهبان والمتصوفة، ولم تحركه في يوم من الأيام شهوة سلطة أو شهوة مال كان بعيدا عن زخرف الحياة ورونقها". كان أبى بالفعل متواضعا في حياته كالقديس. ولا أنسى تعبير جدتي (ماما نبوية) "أبوك ده إذا جتله الفلوس من الباب ينط من الشباك". على الرغم من ثوريته وعدم رضاه سياسيا ودعوته المستمرة للتغيير للأفضل، كان على المستوى الشخصي دائماً راضياً بما عنده، راضياً بحياته الشخصية والأسرية وبأوضاعة المالية (فاحتياجاته كانت دائماً قليلة). كان حقيقة الشخص الذي ينطبق عليه اللفظ "أن السعادة في الرضا"، وعلى الرغم من هذا كان دائم الوعي بأن دوام الحال من المحال وأن التغيير قادم دائماً. لم أره أبداً متشائماً، سواء في الأزمات الأسرية أو الأزمات السياسية، دائماً تجد عنده تفاؤل الانسان وتفاؤل الثوري. ولن أنسى أبدا حين كنا (فى لندن) نتابع سويا أحداث سقوط حائط برلين بكل ما يحمله هذا من معان، ولكن يظل الوالد متفائلا، ويقول مش مهم سقوط هذا النموذج أو ذاك ولكن المهم أن مسعى الإنسان من أجل العدالة والاشتراكية لا ولن ينتهي، قد تتعدد الطرق أو تتعدد النماذج ولكن حتمية العدالة والاشتراكية لم تكن أبداً محل شك لديه. كان أبى اشتراكياً بمعنى الكلمة، وهوابن هذا الجيل الموسوعي، ورائدا من رواد الفكر الأشتراكي العلمي، وعمل مع رفاقه على الدعوة الاشتراكية طوال سنين عمره.
لم تكن معرفته تقتصر فقط على السياسة والاقتصاد والإدارة، بل كان عليما بالتراث، واسع المعرفة بالشعر العربي والجاهلي والمعاصر وضليعا باللغة العربية ومتذوق لجمالها. كان أبى معلما من الطراز الأول، وكان يعشق نقل المعرفة، وكانت قدرته الفذة علي تبسيط أى موضوع وشرحه بسلاسة، ما أدى الى التفاف الكثيرين حوله. وقد كان العديد من أصدقائى يحضرون إلى منزلنا ليس فقط لزيارتى بل ايضا لسماع آرائه ومناقشته فيها. آمن بفكرة التجمع منذ البداية باعتباره حزب وجبهة لكل قوي اليسار، ومؤمنا بأن اليسار ليس حكراً على الماركسية والماركسيين (وهو واحد منهم) وكان دائماً مع أوسع الصيغ لتوحيد كل قوي اليسار المصري. وكان بالفعل مقتنعا بأنه دون وحدة كل قوى اليسار وبالذات التجمع فلا أمل لخروج الوطن من أزمته. وكان أيضاً شديد الإيمان بأن السلطة القائمة فاسدة ومفسدة، وأن الوقت قد حان لتغييرها، وكان مؤمنا بتشكيل أوسع جبهة وطنية لمواجهة هذه السلطة بما في ذلك القوى الإسلامية شريطة موافقتها على التبادل السلمي للسلطة. ظل أبى طوال العشرين سنة الماضية يعمل في منتدى العالم الثالث الذي أنشأه صديقه ورفيقه الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وكلاهما كالقدسيين يعملان بالمجان بشكل كامل مشرفين على هذا العمل البحثي العظيم والذي بدأ بمجموعة من الدراسات عن المستقبلات العربية البديلة. ثم من بعد في مشروع مصر 2020 حيث تم إنتاج أكثر من 20 كتابا يعدوا بحق وصف مصر من جديد على جميع المستويات فتحية له وللدكتور إسماعيل وكل من شاركوا معه في هذا العمل الفذ وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم العيسوي الذي كان أبي دائماً يستشهد بكتابه عن الاقتصاد المصري. جميل الطبع والطابع كان هكذا طوال حياته، ولكنه كان أيضا صاحب مرض، أصيب بالحمة الروماتيزميا وهو صغير أدت الى ضيق فى الصمام التاجى، وظل طوال عمره يعانى من آثارها. أجريت له عملية قلب مفتوح لتوسيع الصمام سنة 1987 ولكنه اصيب مرتين بجلطات فى المخ أدتا إلى تقليص مجال الرؤية بحيث أنه لم يعد قادرا على السياقة، وحتى المشى منفردا كان يشكل خطورة عليه. كعادته تقبل الأوضاع الجديدة وعاش حياته وكأن شيئا لم يكن، هذا كان ممكنا ليس فقط بسبب طبعه الحسن، ولكن أيضا للعناية الفائقة التى أحاطته بها صديقته ورفيقة عمره، أمى، كانت المشرفة اليومية على علاجه وأدويته ومواعيدها وعلى كل اشكال العلاج بوتيرة عسكرية، ساهمت مما لا شك فيه فى إطالة عمره. على مرور السنوات رأيت أبى من عدة مرايا، رأيته فى مرآة الطفل والشاب وتعلمت منه الكثير، رآيته فى مرآة الصديق والأخ والرفيق.. تناقشنا وتحاورنا واختلفنا قليلا واتفقنا كثيرا.. رأيته فى مرآة الزوج المحب العطوف الذى يبذل كل ما عنده. رأيته فى مرآة المعلم لأجيال من الرفاق والأصدقاء والمعارف فى كل مكان تواجدت فيه داخل مصر وخارجها فى مراحل حياتى المختلفة، قبل وبعد سفرى إلى الخارج، دائما ما يذكرونه كمعلم فى الجامعة، فى معهد الإدارة، وبالأخص فى المعهد الاشتراكى. وأخيرا وليس آخرا أراه فى عيون ودموع وقلوب المئات من التلاميذ والأصدقاء ورفاق المسيرة.