رحلتنا اليوم مع كتاب «التصحر.. التهديد والمجابهة» والذى يتناول واحدة من أهم القضايا التى تواجهها شعوب الجنوب فى بيئة عالمنا المعاصر؛ فمساحات كبيرة من الأراضى الجافة والتى تغطى أكثر من ثلث مساحة اليابسة فى العالم تتعرض للتدهور بآثاره الحادة على البيئة وإنتاج الغذاء وهلاك ملايين البشر. ويعبر التصحر عن نفسه بجلاء فى تدهور التربة والغطاء النباتى فى أى منطقة جافة وليس فقط على حواف الصحراء. والتصحر ظاهرة عالمية تؤثر فى الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، وإن كانت أكثر وضوحا فى إفريقيا، والعالم العربى، والهند، وباكستان، والصين، وأستراليا، وأجزاء من دول آسيا الوسطى والقوقاز وجنوبروسيا، بل وفى الولاياتالمتحدة ودول أمريكا اللاتينية لا سيما البرازيل وشيلى. وسيبدو غريبا لو قلنا إن من الدول التى تعرف مشكلة التصحر دولا أوروبية مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال. والكتاب الذى بين أيدينا يحلل المشكلة فى أكثر من 400 صفحة فى ثلاثة محاور: • المحور الأول (من الفصل الأول إلى الرابع ) ويعالج طبيعة التصحر وأسبابه وامتداده. • المحور الثانى (من الفصل الخامس إلى التاسع) ويتناول الطرق التى يمكن بها مجابهة التصحر مع إعطاء أمثلة للمشروعات التى هدفت إلى ذلك؛ • المحور الثالث (الفصل العاشر) ويقدم الجهود التى بذلت فى تلك المجابهة للوصول إلى حلول. الطبيعة أم البشر؟ التصحر ليس أزمة حديثة، إذ شهدته البشرية منذ آلاف السنين، ولكنه أصبح حديث العالم واهتمامه مع بداية سبعينيات القرن العشرين حين ضرب الجفاف إقليم الساحل فى غرب إفريقيا. ورغم التغلب على مشكلة المجاعة فى تلك الفترة إلا أن تداعياتها استمرت فى العقود اللاحقة، وإن بدرجات أخف. كانت صدمة سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين جرس إنذار خطيرا جراء ما ترتب على التصحر والمجاعة من موت نحو 50 ألفا إلى 250 ألف نسمة ونفوق 3.5 مليون رأس من الماشية وعدد لا يحصى من الأغنام والماعز والإبل، وقد دفع ذلك الأممالمتحدة لعقد أول مؤتمر لها عن مشكلة التصحر فى عام 1977 فى العاصمة الكينية نيروبى، ومن يومها والمسألة فى دراسات لا تنتهى من أجل بلوغ حلول للحد من المشكلة. أوضحت الأبحاث العلمية أن كارثة التصحر بإقليم الساحل فى النصف الثانى من القرن العشرين لم تكن طبيعية سببها نقص الأمطار، وإنما نتاج عملية متصلة من تدهور الأرض لعب الإنسان فيها دورا أساسيا. وقد حدد العلماء أربعة أسباب لمشكلة التصحر وهى: الزراعة المفرطة والرعى الجائر، وإزالة الغابات، وسوء إدارة وسائل الرى فى الزراعة. وعلى أية حال فإنه إذا كان سوء استخدام الأرض انعكاسا لسوء التخطيط إلا أن ذلك يتأثر بنوبات الجفاف؛ فخلال هذه النوبات يشتد النشاط الزراعى والرعوى حتى يتم تعويض تناقص الغذاء، كما أن ذلك يتأثر بظروف الفقر والتخلف الاقتصادى الذى لا يساعد الفلاحين على إدارة أراضيهم بطريقة مستدامة، ويتأثر ذلك فى ذات الوقت بالسياسات الحكومية غير الرشيدة، والتى تغض الطرف عن صيانة أو تحسين الأنظمة الزراعية التقليدية. وهناك جدل واسع حول إسهام العوامل البشرية ودور الجفاف فى حدوث التصحر، فلقد لوحظ أن إجمالى متوسط المطر السنوى يتسم بالتذبذب فى المناطق الجافة، وبالتالى يتكرر حدوث نوبات الجفاف (أى الفترات التى يقل فيها معدل المطر عن متوسطه السنوى). وقد شدد العلماء على أن التأثير البشرى هو المسبب الرئيسى لوقوع التصحر، وأن دور الجفاف لم يكن إلا محفزا فى ظهور المشكلة، بحيث أدى إلى تسارع حدوث عملية تدهور الأرض، والتى كانت تحدث قبل مجئ الجفاف وإن كانت بمعدلات أقل. وقد اعتبر بعض الخبراء أن الجفاف تأثر لدرجة كبيرة بالتغير الذى شهده الغطاء السطحى للأرض وأثره فى عكس الأشعة الشمسية، فى الوقت الذى رأى فيه آخرون أن حدوث الجفاف إنما جاء نتيجة تغير عالمى فى المناخ بسبب حدوث ظاهرات عالمية كالازدياد الحرارى فى مناخ الأرض الناجم عن ظاهرة الانحباس الحرارى. تجليات التصحر ثمة مشكلتان يمكن من خلالهما فهم مسألة التصحر بوضوح وهما تعرية التربة وإزالة الغطاء النباتى، ولاسيما فى المناطق المدارية والأقاليم الجافة. ويترتب على مشكلة التصحر هنا تقويض فى دعائم الإنتاج الغذائى، فضلا عن مضاعفة معاناة الناس من سوء التغذية والمجاعة. وليس شرطا أن تأتى المجاعة كظل للجفاف أو التصحر، ففى إثيوبيا والسودان وأماكن أخرى أتت المجاعة من دون حدوث الجفاف أو التصحر، وإنما ارتبطت هذه الكوارث فى صحبة الفقر والحروب والسياسات الحكومية المتخبطة فى إنتاج الغذاء وغير ذلك من العوامل التى تقف عثرة فى طريق تلقى مناطق العجز الغذائى المساعدات الآتية من إقليم الوفرة. فى عام 1977 اتخذت الأممالمتحدة أول خطوة علمية وسياسية فى آن، حين عقدت مؤتمرها الدولى للتصحر ووجهت الدعوة وقتها إلى أكثر من 95 دولة و50 هيئة ومكتبا تابعا للأمم المتحدة، وثمانى منظمات حكومية دولية و65 منظمة غير حكومية. وجاءت هذه الخطوة مدفوعة بنكبات المجاعات التى حدثت فى إقليم الساحل (جنوب الصحراء الكبرى)، ولكن المؤتمر ركز على الطريقة التى تنشأ بها المجاعات وغيرها من صور المآسى التى يعانيها الإنسان كنتاج عملية طويلة المدى من تدهور الأراضى والنبات، وهى العملية المعززة بخطى الجفاف. وقد توصل العلماء إلى أن وسائل المكافحة والعون قصيرة المدى التى تمت خلال وبعد نوبات الجفاف لم تكن كافية لمنع تكرار الكارثة فى المستقبل، كما اتضح أننا فى حاجة إلى التزام طويل الأمد لتنمية زراعية مستدامة وجهود بناءة لإصلاح ومعالجة مشكلات البيئة. أى إن السيطرة على التصحر ليست ضامنة لوضع نهاية للجفاف، ولكنها تختصر المسافة نحو بلوغ هذه الغاية. وأشارت التقديرات أن الامتداد الكلى للتصحر أصاب 35 مليون كم2 بدرجات أو بأخرى من التصحر؛ وهو ما يقترب من ربع مساحة سطح الأرض. ومعدل تصحر الأرض حول العالم يبلغ نحو 200 كم2 سنويا. وطيلة نصف القرن الماضى، تحقق تقدم ملموس فى رصد التصحر باستخدام وسائل الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية ومضت خطوات ملموسة لحصر الأراضى المعرضة للجفاف والتصحر من أجل تأمين استمرارية الإنتاج الغذائى فى مواجهة معاكسة الظروف المناخية وبما لا يؤدى فى ذات الوقت إلى تدهور بيئى. اهتدى العلماء إلى أن أساس السيطرة على التصحر ليست فى أن نضع أسوارا وحواجز أمام مسيرة التصحر، وإنما الأفضل أن نجعل أساليب استغلال الأرض ذات قدرة أكثر استدامة، ويتضمن ذلك عددا من الأساليب المقترحة التى يمكن عن طريقها تحسين إدارة الزراعة القائمة على المطر (الزراعة المطرية أو البعلية) والزراعة المروية، وتربية الماشية، وموارد الغابات. وإذا تحقق ذلك يمكن إيقاف معدلات الزراعة الجائرة ومشكلات التملح وغرق الأراضى المروية، وإيقاف الرعى الجائر وإزالة الغابات. وسبل الوصول إلى ذلك تكمن فى تحسين كل من إنتاجية الأرض وقدرتها على استمرارية الاستغلال. وفى الكتاب الذى بين أيدينا تتناول الفصول من الخامس إلى الثامن الأساليب التى يستوجب على دول عالم الجنوب الأخذ بها لتحسين استخدام الأرض، ويلقى الفصل التاسع نظرة على وسائل صيانة التربة وتثبيت الكثبان الرملية. ويتضح من الفصل العاشر كيف أن قليلا من الجهود قد بذلت لتنفيذ التوصيات ذات الأولوية فى خطة عمل مؤتمر التصحر أو فى البرامج التعاونية بين الدول. وإذا ما تساءلنا عن سبب قلة النجاح فى هذا الصدد لكانت أسهل إجابة هى أن حكومات الدول النامية والمتقدمة على السواء تفتقر إلى الاهتمام والإرادة لتفعل ذلك، ولأن الحلول المقترحة للمشكلة تعتمد على النهج طويل المدى الذى يحتاج مواصلة واستدامة ومتابعة ومنهج منظم فى علاج مشكلات البيئة وتدخل الإنسان فيها. فى عام 2002 وحين ظهرت النسخة العربية التى بين أيدينا (من ترجمة عاطف معتمد وآخرين) كان آلان جرينجر مؤلف الكتاب قد خلص إلى القول: «مشكلة التصحر لن تغرب عنا سريعا، وهى من المشكلات التى لا تعترف بالحدود بين الدول أو التخصصات العلمية، أو أنواع استخدامات الأرض، فهذه المشكلة تمثل تحد لنا لكى ننظر للعلاقات القائمة بين البيئة والتنمية بعين التحليل المتكامل، لأنها مشكلة تكشف مدى القصور الذى تعانيه مقدرتنا فى إدارة الموارد الطبيعية بما يحول دون رخاء الإنسان فى بعض مناطق العالم ذات الظروف المناخية غير الملائمة، كما تكشف مشكلة التصحر عن مدى الإهمال الدولى الشديد تجاه مشكلة ذات تأثير عالمى».