ركبت الحمار فى إحدى زيارتى المبكرة لريف مصر وأنا بين الطفولة والمراهقة، ركبته لينقلنى من عزبة إلى عزبة أخرى. كنت أزامل فى مدرستى الابتدائية، كما فى الثانوية أطفالًا ثم مراهقين من عائلات مالكة لأراضى فى وسط وشمال الدلتا. دعيت مرارًا من جانب هؤلاء الأهل لقضاء بعض العطلات فى عزب يملكونها. • • • تنقلنا القطارات الكبيرة من القاهرة حتى أقرب مدينة، طنطا مثلًا، ومنها نستقل ما كان يعرف مجازا بقطار الدلتا، وهو عبارة عن صندوق خشبى كبير يمر بنا متثاقلا ومترنحا كالمخمور على بلدات صغيرة أو كبيرة، أو يتوقف عندها ليفرغ، أو ليجدد حمولته، من دواب وطيور وفلاحين وصناديق أو جوالات محشوة بحاصلات معدة للبيع فى أسواق تقام بانتظام فى بلدة وأخرى. • • • ننزل من «القطار - الصندوق»، المملوك لشركة بلجيكية وشركات أوروبية أخرى، فى أقرب بلدة من وجهتنا النهائية فى عزبة فلان الباشا أو المسئول الكبير. هناك عند نقطة اختار السائق التوقف عندها لاعتبار وحيد وهو أن توافقا حصل بين مستخدمى هذه الوسيلة للنقل على اعتبار هذه النقطة محطة يتوقف عندها السائق ليشرب الشاى ويأكل شيئا من أشياء يحملها معهم الركاب ويتسلون بقضمها وهم يتداولون فى أمور قراهم وحاجتهم من وراء زيارة البندر. • • • أمتار قليلة فصلت المحطة عن موقف الحمير لمن يزمع من الركاب استكمال رحلته فى أعماق الريف. حدث فى مرات معدودة أن وجدت فى انتظارى «كارتة» مخصصة أصلًا للباشا الكبير ونسائه ولا تأتى للمحطة إلا بأمره. ننزل من القطار الخشب ونمشى فى اتجاه الحمار، فالحمار، كما أدركت على مدى السنين،لا يأتى لأحد، إنما يذهب إليه من يحتاجه من بنى البشر. كنت قد أدركت أيضًا أن الحمار يختلف عن الجمل فى أنه لا يركع لراكب، وما على الراكب طفلًا كان أم فتيًا إلا أن يصعد أو يجتهد مع آخرين ليركبه. لاحظت أيضًا أن سائق الحمار، وقد يكون مالكه أو مؤجره، لا يحظى بالاحترام الذى يحظى به سائق قطار الدلتا ولا حتى سائق "كارتة" الباشا. الاثنان على كل حال، وأقصد الحمار وقطار الدلتا، يتماثلان فى أن كليهما لا يتوقف لعابر سبيل إنما يتعين على هذا العابر أن يحيد بمساره. • • • انتهت علاقتى بحمير الباشوات ولم تنته علاقتى بالحمّارين (بتشديد الميم)، بل تجددت وإن بصور شتى. مرات عديدة وقفت أمام حمار وبجانبه حمّاره (بتشديد الميم) وعلى ظهره، أعنى على ظهر الحمار، إبنى وبعد سنوات جلست على ظهره ابنتنا. حدث هذا خلال زياراتنا الروتينية كعائلة صغيرة إلى مطعم آندريا بالحرانية فى ريف مصر. ثم صارت تتباعد علاقتنا بحمير مصر كلما صدر التكليف لنا بالسفر أو اخترناه. • • • أتذكر أننى فور وصولى إلى الهند استعملت فى دلهى القديمة «الريكشو»، دراجة هوائية تجر راكبًا جالسًا فوق مقعد تظلله شمسية بالية. يقود الدراجة رجل بسروال هندى يركض على قدميه فى درجة حرارة تجاوزت الأربعين، استعملتها مجبرًا مرات فى مصيف مسورى لقضاء حاجة ضرورية لا ينفع فيها إلا الريكشو. • • • فى بكين عاصمة الصين كانت تجربتى الثالثة مع الدراجة الهوائية. لم أكن أنا الراكب بل زوجتى الحامل ونحن فى الطريق من الفندق إلى المستشفى قرب الفجر، كنت مثل قائد الريكشو أجرى على قدمين، هو حاف مثل "حمّار" الريف المصرى ومثل زميله فى دلهى القديمة، وأنا فى "شبشب" من نسيج القطن لزوم الاستخدام داخل غرفة النوم فى الفندق. • • • أحكى لأصدقائى دائما وبكل فخر أننى سبقتهم إلى التعرف على التوك توك، زينة شوارع القاهرة الخلفية والزاحف بعناد وشراسة لاحتلال شوارع أخرى وفى نيته الوصول منتصرا وكاسحا إلى قلب القاهرة الخديوية، غير مهتم فى الظاهر وحتى الآن على الأقل باستطلاع أحوال العمل فى شوارع العاصمة الجديدة وظروف احتمالات التسرب إليها. • • • تعارفنا، التوك توك وأنا، أحدنا على الآخر فى بومباى وكلكتا وبانجكوك وكولومبو وكراتشى قبل أن نعود فنلتقى لكن على البعد معظم الوقت فى القاهرة. شهادتى فيه مجروحة فقد شبهته قبل عشرات السنين بحكيم الريف فى الصين الذى دونه تستعصى الحياة على الفلاحين، وعلى وقتى كانوا بمئات الملايين. • • • غاب عن بالى أن أذكر أننى عشت عصر التعددية العظمى فى وسائل النقل إلى حد غير مسبوق فى تاريخ علاقة البشر ب«العجلة» أو ب«الدولاب» حسب اللهجة الشامية. صحيح اندثر، أو أتمنى أن يكون قد اندثر، الريكشو، أى «الدراجة - المقعد» الهوائية التى تعتمد على رجل يركض بها على قدميه وزبون يجلس على المقعد. عشت هذا العصر مع الريكشو بعد أن تقدم وصار سائقه يجلس على مقعد ويجر خلفه مقعدين براكبين فى وقت واحد، عشتهما وعشت معهما من على بر النهر منظر رجل يحمل رجلا آخر على كتفيه أو على مقعد أو على فراش خشبى خلال أداء فريضة حج الهندوس إلى نهر الجانجز. النهر المقدس الذى يستقى مياهه من ينابيع فى الجنة. • • • يحتل التوكتوك بسرعة انتشاره والحمار المنحسر عددًا ودورًا مكانهما المتميز فى قاعدة ما أطلق عليه مثلث وسائل النقل التى استخدمتها فى حياتى. مثلث تقف عند قمته طائرات البوينج الجامبو ذات الطابقين وطائرات الكونكورد التى عبرت بى المحيط الأطلسى فى ثلث الوقت الذى كانت تستهلكه الطائرات «العادية»، مثل السوبر كونستليشن التى أقلتنى من هونج كونج إلى القاهرة عبر بومباى ومن زيوريخ إلى ريو دى جانيرو وبيونس آيرس ومنهما إلى سانتياجو، وتنقلت بها فى صحبة الأستاذ هيكل فى بعض مهام صحفية فى أجواء دول العالم العربى. • • • بين قمة مثلث وسائل النقل وقاعدته ركبت وأنا فى سن المراهقة طائرة تدريب لأنزل منها ووالدى معى يمسك بيدى خشية أن أحاول الإفلات قبل أن نستقل الحنطور عائدين إلى بيتنا. تخرجت وعينت ملحقًا دبلوماسيًا وصدر أمر تكليفى بالالتحاق بسفارة مصر فى نيودلهى. أتذكر أن وزارة الخارجية خيرتنى بين أن أسافر بالجو أو بالبحر على باخرة ركاب إيطالية كانت بين «الأفخر والأشهر» على خطوط الملاحة العاملة بين أوروبا وآسيا. اخترت الجو ربما للهفة على الوصول بسرعة إلى مقر عملى أو ربما بسبب الاطمئنان الأقل لبحر شاهدت وقرأت عديد الروايات عن غدره. • • • لم يمنعنى نقص الاطمئنان هذا من ركوب باخرة نيلية فى طريق رحلتنا الكشفية ونحن طلبة إلى السودان. نمنا على سطح الباخرة وكان البرد قارسا فأشعلنا نارًا وجلسنا، أو قل نمنا، حولها حتى الصباح. كذلك لم يمنعنا هذا النقص فى الاطمئنان من اعتياد ركوبه فى شبابنا وسنوات مراهقتنا، نعبره فى عبارات صغيرة أو كبيرة وفى تاكسيات نهرية، ونتنقل فوقه فى بواخر ضخمة بين الأقصر وأسوان. سبقتنا إلى استخدامها أجاثا كريستى وسجلت رحلتها فى روايتها عن جريمة فوق سطح النيل. نعرف أيضا أن القدامى ركبوا النيل كما ركبوا البحرين الأحمر والأبيض قبل آلاف السنين. • • • ركبنا حافلات من كل الأنواع وفى أقسى الظروف. صعدنا سلسلة الجبل الأخضر فى ليبيا وكنت واحدًا من كثيرين لم يصعدوا قبلها فى حياتهم لأعلى من تل المقطم. انتقلنا بسيارات نقل دواب وجنود من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان، ومن هناك صعدنا مع مرتفعات سلسلة جبال النوبا لقضاء أيام مع قبائلها. • • • مرت سنوات خمسة أو ستة قبل أن نستقل، أنا وزوجتى مع هنود كثيرين، حافلة متهالكة من صنع المستعمر الإنجليزى صعدت بنا نحو ارتفاعات ليست متواضعة فى مجموعة جبال الألب. وفى أفريقيا كنت ضمن مهمة رسمية زارت شمال تانزانيا وكانت فرصة لنجرب طريق الصعود نحو قمة كيليمانجارو الشهيرة بعد رحلة طويلة فى السهول بحافلة عمومية نقلتنا من دار السلام. • • • مرت سنين عدة على هذه الرحلة عدت بعدها إلى تحقيق حلم كثيرًا ما راودنى عندما كنت ملتحقًا بسفارتنا فى سانتياجو، وهو حلم صعود سلسلة الأنديز. هذه المرة كنت فى غرب شيلى أعمل بالبحث مع فريق ضم بعض أروع الباحثين فى العلوم السياسية. زرنا شقة بابلو نيرودا المطلة على المحيط وبعدها قررنا أن تكون عودتنا بطيئة عبر سلسلة لعلها بين أهم السلاسل التى شهدت عبور جيوش أوروبا ونزوح الملايين من الشعوب الأصلية. كانت رحلتنا، بسبب الضباب والسكون الطاغى، مرعبة. • • • توقفت عن الكتابة تعبًا أو تدللًا. ارتديت حذاء الخروج وتوجهت إلى ناحية سيارتى المتوقفة مثلى عن الحركة لعدة أيام. اقتربت منها لأكتشف أن أحد الإطارات "نائم"، صفة جرى العرف على إطلاقها على إطار على هذه الحال من الاعتلال. طلبت مساعدة من رجل الأمن. بعد دقائق سمعت ضجيجا فظيعا ومؤلما ظل يقترب حتى صار مصدره بيننا. ظهرت أمامى عربة شحن صغيرة تجرها دراجة بخارية ويقودها شاب نشيط قام بتغيير الإطار المعطوب بإطار صحيح. ودعانى إلى ركوب العربة مع الإطار المعطوب. حاولت التهرب من الرحلة بالمراوغة وبغيرها وفشلت. بالفعل انتقلت إلى ورشة الإصلاح بوسيلة نقل بدائية الصوت والشكل مشت بنا وسط عاصفة من الاحتجاج والتأفف يقابلها من جانبى حرج لم أعهده مع أى وسيلة نقل أخرى استخدمتها على امتداد عصور عمرى.