نشر مركز The Washington Institute for Near East Policy مقالًا للباحثة الإسرائيلية نعومى نيومان، توضح فيه أن السياسات الإسرائيلية الراهنة فى الضفة الغربية، المدفوعة باستراتيجية أمنية وعقائدية تهدف إلى تفكيك إمكانية قيام دولة فلسطينية، وتتزامن مع توسع استيطانى غير مسبوق وعنف ممنهج ضد الفلسطينيين. لكن قوبل هذا التوسع بتصاعد زخم دولى للاعتراف بفلسطين كدولة، ما ينذر بتغيير جذرى فى ملامح الصراع وبمواجهة دبلوماسية متصاعدة بين إسرائيل والمجتمع الدولى.. نعرض من المقال ما يلى: مع تصاعد الزخم الدولى للاعتراف بدولة فلسطينية - والذى يتجسد فى القمة الفرنسية السعودية المقرر عقدها فى نيويورك يوم 17 يونيو - يشهد الوضع القائم فى الضفة الغربية تآكلًا متسارعًا، فيما تتأجج التوترات التى كانت تغلى من قبل اندلاع حرب غزة. ويعزى هذا التدهور إلى عوامل متعددة، أبرزها الجمود السياسى والأيديولوجى لدى الجانب الفلسطينى، وضعف أداء السلطة الفلسطينية فى الحكم والأمن، لا سيما فى التعامل مع بؤر العنف وغياب القانون. وفى المقابل، تتأثر الإجراءات الإسرائيلية للتعامل مع التهديدات الأمنية الحقيقية بضغوط سياسية متنامية من المستوطنين وحلفائهم المتشددين فى الحكومة الراهنة. فبعض هذه الضغوط ينبع من قلق المستوطنين إزاء موجة العمليات الفلسطينية الأخيرة، بينما يرتبط جانب آخر بمشروع طويل الأمد يسعى لإعادة تشكيل المشهد الاستراتيجى فى الضفة الغربية تماشيًا مع رؤية سياسية وأيديولوجية صريحة - ألا وهى منع قيام دولة فلسطينية وتوسيع المشروع الاستيطانى الإسرائيلى. «الجدار الحديدى» أبعد من كونه استمرارًا للمألوف منذ يناير، تطبق إسرائيل استراتيجية أمنية جديدة فى الضفة الغربية تتمحور حول عملية الجدار الحديدى، التى تهدف إلى تقييد حركة المقاومين المسلحين، خصوصًا فى مخيمات اللاجئين التى باتت منطلقًا للعمليات وملاذًا آمنًا للفصائل المسلحة المنتظمة فى وحدات قتالية. وقد ركزت العملية على مخيمات اللاجئين فى شمال الضفة الغربية -وتحديدًا جنين وطولكرم ونور شمس- التى بقيت خارج نطاق التدخل المباشر بسبب تحفظ السلطة الفلسطينية على العمل فيها، واكتفاء إسرائيل سابقًا بغارات محدودة لمكافحة العمليات المسلحة. حققت العملية نجاحًا ملموسًا على الصعيد الأمنى، حيث انخفض عدد العمليات الكبرى المنطلقة من المنطقة إلى 25 عملية فقط بين يناير ومايو 2025، مقارنة ب135 عملية فى الفترة نفسها من العام السابق. كما أدت إلى اعتقال عدد من المقاومين ومصادرة كميات كبيرة من المركبات والمتفجرات والأموال النقدية. والأهم من ذلك، أن «الجدار الحديدى» لا يمثل مجرد «استمرار للمألوف»، بل يحمل ابتكارات جوهرية عديدة تشى بنية إعادة تشكيل المشهد استراتيجيًا. ومن ذلك طول مدة العملية -التى امتدت لخمسة أشهر حتى الآن- ونشر الجيش الإسرائيلى داخل مخيمات اللاجئين بشكل يوحى بالتحضير لوجود دائم. كما تشمل تدمير المنازل والطرق والبنية التحتية على نطاق واسع، إضافة إلى النزوح (المؤقت ظاهريًا) لعشرات الآلاف من السكان. وقد تجاوز عدد النازحين خلال العملية 40 ألف شخص- وهو أكبر نزوح جماعى منذ عام 1967. ورغم أن هذه الإجراءات قد تكون مبررة من الناحية العملياتية- كالحاجة لفصل المدنيين عن المقاتلين، وكشف المتفجرات والبنية التحتية العسكرية، وتمكين المركبات المدرعة من التحرك داخل المخيمات- إلا أنه من الصعب تجاهل تشابهها مع الأساليب الإسرائيلية فى غزة، كالاغتيالات الجوية المستهدفة. وهذا يثير احتمالًا قويًا بأن العملية تخدم أيضًا أهدافًا سياسية، بما فى ذلك تفكيك مخيمات اللاجئين كجزء من الحملة الإسرائيلية الأوسع ضد وكالة الأونروا. وفى هذه المرحلة، يبقى غامضًا الدور الذى تنوى إسرائيل إسناده للسلطة الفلسطينية فى إعادة تنظيم شمال الضفة الغربية، لا سيما منطقة جنين حيث يتركز النشاط الإسرائيلى بكثافة أكبر. ويعتقد مراقبون فلسطينيون أن إسرائيل قد تسعى عمدًا لقطع الروابط الجغرافية والاقتصادية لجنين مع باقى المدن الفلسطينية. ويبدو أن هذا المسعى يتضمن خططًا لإعادة إحياء مستوطنات أُخليت فى إطار خطة فك الارتباط عن غزة عام 2005، والتى شملت أيضًا بعض مستوطنات الضفة الغربية. كما تجرى محاولات لتوثيق العلاقات الاقتصادية والجغرافية بين جنين والعرب الإسرائيليين، وذلك أساسًا عبر تسهيل وصولهم إليها عبر معبر جلمة. وإجمالًا، قد تعكس هذه الإجراءات تطبيقًا فعليًا لما يُعرف ب«مخطط الكانتونات» فى الضفة الغربية، الذى يحظى بتأييد فى أوساط اليمين الإسرائيلى. ويقضى هذا المخطط بتقسيم المناطق الفلسطينية إلى جيوب معزولة تتمتع بحكم ذاتى محدود، بهدف منع قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا. وحينها ستبسط إسرائيل سيادتها على المناطق المتبقية، بما يشمل الكتل الاستيطانية الكبرى والمناطق الاستراتيجية. مخططات استيطانية جديدة لإجهاض الدولة الفلسطينية بتوجيه من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أقر مجلس الوزراء الإسرائيلى فى أواخر الشهر المنصرم قرارًا بإقامة اثنين وعشرين مستوطنة جديدة فى الضفة الغربية. ستقام بعض هذه المستوطنات من الصفر، بينما ستنشأ أخرى عبر إضفاء الشرعية على بؤر استيطانية عشوائية. وتقع معظم هذه المواقع فى مناطق معزولة عن التجمعات الإسرائيلية الأخرى، قريبًا من التجمعات الفلسطينية، وفى مناطق مخصصة لدولة فلسطينية مستقبلية حسب معظم المبادرات الدبلوماسية، بما فيها خطة ترامب للسلام عام 2020. وإذا ما تم تنفيذ هذا المخطط، فسيمثل أوسع توسع استيطانى منذ اتفاقيات أوسلو. ويأتى هذا القرار فى سياق قرارات حكومية أخرى اتُخذت فى الأشهر الأخيرة، تجيز بناء آلاف الوحدات السكنية فى الضفة الغربية وتطوير إجراءات تسجيل الأراضى فى المنطقة "ج"، مما يمهد الطريق أمام مزاعم الملكية الإسرائيلية الخاصة ويعرقل فى المقابل جهود التسجيل المماثلة التى تقودها السلطة الفلسطينية. وتتزامن هذه الإجراءات مع تصاعد حاد فى المواجهات بين المستوطنين الإسرائيليين - الذين يحظى بعضهم بدعم متنامٍ من أعضاء الحكومة - والسكان الفلسطينيين. وتشير المنظمات الدولية إلى وقوع 2,848 حادثة من هذا النوع منذ بداية حرب غزة وحتى نهاية مايو. وغالبًا ما تؤدى هذه المواجهات إلى نزوح الفلسطينيين من منازلهم إثر اعتداءات المستوطنين. وفى كثير من الحالات، يمارس وزراء ضغوطًا على جهاز الأمن الإسرائيلى والشرطة للتخفيف من إجراءات إنفاذ القانون ضد المعتدين الإسرائيليين. والهدف السياسى من وراء هذه المبادرات -التى تتولى حكومة نتنياهو قيادتها- هو إحباط قيام دولة فلسطينية، وهو الهدف الذى أكده صراحة وزير الدفاع إسرائيل كاتس عقب الإعلان عن المستوطنات الجديدة. وبالمثل، أعلن سموتريتش بُعيد فوز دونالد ترامب الانتخابى فى نوفمبر الماضى أن "عام 2025 سيكون عام السيادة فى الضفة الغربية." وفى هذه الأثناء، يتنامى التأييد الدولى للاعتراف بدولة فلسطينية بصورة منفصلة بشكل متزايد عن المطالبة بتوصل إسرائيلى فلسطينى لاتفاق أو حتى مفاوضات ثنائية. فبعض الدول تشترط للاعتراف شروطًا معينة، كإطلاق سراح الأسرى ونزع سلاح حماس أو إصلاح السلطة الفلسطينية. لكن التوجه العام يسير نحو تأييد الاعتراف دون شروط مسبقة. وقد نُظمت قمة 17 يونيو استنادًا إلى قرار أممى صدر فى ديسمبر، ومع اقتراب موعدها تتفاقم التوترات الدبلوماسية بين إسرائيل والمجتمع الدولى، خصوصًا مع الراعيين الرئيسيين فرنسا والسعودية. • • • إن التحولات التى تشهدها الضفة الغربية فى الأشهر الأخيرة -والمدفوعة إلى حد كبير بالسياسات الإسرائيلية، بما فيها أعمال المستوطنين المدعومة حكوميًا- قد تغير حالة الجمود الطويل السائدة هناك. فلقد نجحت الاستراتيجيات الإسرائيلية فى الحد من العمليات المسلحة المنطلقة من تلك الأراضى. لكنها فى المقابل أججت الاحتكاكات ومهدت الطريق لخطوات إدارية واستيطانية جذرية تهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية، وتضع الأسس لضم أجزاء من الأراضى أو تطبيق السيادة الإسرائيلية عليها بالكامل. من الصعب التنبؤ بتوقيت أو مدى إمكانية أن تؤدى السياسة الحكومية الإسرائيلية إلى موجة جديدة من العمليات الفلسطينية المسلحة. لكن من الواضح أنها تفاقم العزلة الدبلوماسية لإسرائيل - خصوصًا فى أوروبا، شريكها التجارى الأكبر، والتى تُبدى استعدادًا متزايدًا لتقليص الروابط الدبلوماسية والاقتصادية والعلمية. يستند المنهج الإسرائيلى الراهن إلى اعتقاد سائد فى أوساط اليمين بأن إدارة ترامب ستقدم دعمًا مطلقًا، أو على أقل تقدير لن تُبدى اهتمامًا بالملف الفلسطينى. ورغم صعوبة تصور انعكاس هذا التوجه ما دامت إسرائيل تؤمن بأن هذا هو الموقف الواشنطنى، فإن مثل هذا التحول الأمريكى قد يبدأ فى مجالات تتداخل فيها المصالح الأمريكية المباشرة، كإنهاء الحرب فى غزة أو التوصل لاتفاق نووى مع إيران أو إبرام اتفاقية مساعدة أمنية أمريكية إسرائيلية متعددة السنوات. النص الأصلى