تُحيى الأممالمتحدة هذا العام الذكرى السنوية الثمانين لإنشاء المنظمة الدولية، وفى قلبها عمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام التى تتفرد بكونها أحد أبرز وأقوى تجليات التعاون الدولى متعدد الأطراف. فعلى مدى ما يقرب من ثمانية عقود، ساهمت جهود وتضحيات أصحاب الخوذ الزرقاء فى إنقاذ الأرواح وتغيير حياة الناس إلى الأفضل – لتساعد البلدان على عبور المسار الصعب من الحرب إلى السلام. يشارك حاليا أكثر من 76 ألفا من الأفراد المدنيين والعسكريين والشرطيين فى 11 بعثة حول العالم؛ فمن قبرص إلى لبنان، ومن جمهورية إفريقيا الوسطى إلى جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يمد أولئك الرجال والنساء الشجعان شريان حياة إلى الملايين من الأشخاص الذين يعيشون فى بعض من أكثر سياقات العالم هشاشة، على الصعيدين السياسى والأمنى. بيد أنه فى ضوء تلك الضغوط المتنامية، من الضرورى إعادة التفكير فى دور عمليات حفظ السلام داخل البنية الأوسع للسلم والأمن الدوليين. ولقد كان فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى مُحقا حين شدد على أن «حفظ السلام يُمثل أداة حيوية للمجتمع الدولى ولكنه لا ينبغى أن يُنظر إليه باعتباره الوسيلة الوحيدة لصون السلام». كما زاد على ذلك بتأكيده على أن حفظ السلام «لا يُمكن أن يكون بديلا عن الدبلوماسية الوقائية، أو جهود الوساطة، أو بناء السلام أو الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة لمعالجة الأسباب الأساسية وعلاج الانقسامات المجتمعية»، ونبه السيد رئيس الجمهورية على أن «حفظ السلام لا ينبغى أن يكون هو الاستجابة التلقائية أو الفورية لكل أزمة». ولهذا فإن موضوع احتفالنا باليوم الدولى لحفظة السلام التابعين للأمم المتحدة لهذا العام، وهو «مستقبل حفظ السلام» يكتسب أهمية بالغة ويأتى فى التوقيت المناسب تماما. فاليوم يواجه حفظة السلام تهديدات متصاعدة وغير مسبوقة؛ إذ تغيرت طبيعة الصراعات فصارت أطول أمدًا، وأكثر دموية وتعقيدًا. كذلك، فلم تعد الصراعات محصورة داخل حدود البلد الواحد، وسرعان ما تتسع رقعتها عبر الحدود، وما من تعقيد المشهد هو الإرهاب والجريمة المنظمة والحرب السيبرانية وانتشار المعلومات المغلوطة والمضللة فضلاً عن تنامى استخدام التقنيات والتكنولوجيات الحديثة فى الصراعات. ليس هذا كل شىء، فتغير المناخ يُعمق من عدم الاستقرار فى مناطق هشة بالفعل. وفى ظل تفاوت التوجهات داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أضحى التوافق أمرا أكثر صعوبة فصار نسق التحرك بطيئًا فى وقت ما أحوجنا فيه إلى العمل العاجل. ولقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش عن ذلك بوضوح بقوله، «إن ثمة نقصًا فى الثقة، داخل الدول والأقاليم، وفيما بينها.. تشخيص قاتم للوضع، ولكن لابد لنا أن نواجه الحقائق». ومن بين أكثر المسائل إلحاحًا هى التباين المتنامى والمستمر بين المهام الملقاة على عاتق بعثات حفظ السلام والموارد المتاحة لها للاضطلاع بتلك المهام. إن هذا يُقوض فاعلية عمليات حفظ السلام ويدفع بها فى أوضاع «حيث يكاد لا يكون هناك سلام لحفظه». إن ميثاق المستقبل الذى اعتمدته قمة المستقبل فى 2024، يضعنا أمام لحظة للمراجعة لكنه يمنحنا الفرصة أيضا. فهو يؤكد أن عمليات السلام يُمكن أن يُكتب لها النجاح فقط إذا استندت إلى الإرادة السياسية واستراتيجيات شاملة تجتث أسباب الصراع من جذورها. كما أنه يُشدد على نحو صحيح على الحاجة لدعم بعثات حفظ السلام بالتمويل الكافى، على نحو مستدام ويُمكن التنبؤ به. كما ويخول ميثاق المستقبل إجراء مراجعة شاملة لعمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام وهى فرصة لإعادة التفكير وإصلاح نموذج حفظ السلام. فالسياقات شديدة الخطورة التى يغصُّ بها عالمنا اليوم تستلزم أن يكون لدى بعثات حفظ السلام من الأدوات المناسبة والشراكات والاستراتيجيات ما يُمكنها من حماية المدنيين وتقديم الدعم الفعال لبناء السلام. إن مصر، التى تحتفل هذا العام بمرور 65 عامًا على مشاركتها الفعالة فى عمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام، قد أظهرت ولا تزال، التزامًا قويًا ومستدامًا وراسخًا إزاء أهداف ومبادئ ميثاق الأممالمتحدة. فمنذ أسهمت قواتها لأول مرة فى عملية الأممالمتحدة لحفظ السلام فى الكونغو فى العام 1960، نشرت مصر ما يزيد عن 30 ألفًا من حفظة السلام فى 37 مهمة لحفظ السلام عبر 24 دولة، لتكون فى مصاف كبريات الدول المساهمة بأفراد نظاميين فى عمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام. وتنشر مصر حاليا 1205 من حفظة السلام، من بينهم نساء، يخدمن فى خمس بعثات فى أنحاء متفرقة من قارتنا الإفريقية. ومن المشهود أن يكون سجل الخدمة والتضحيات المصرى موضع اعتراف وتقدير العالم، وهو ما يُعبر عنه إعادة انتخاب مصر كمقرر للجنة الأممالمتحدة الخاصة المعنية بعمليات حفظ السلام وانتخابُها مؤخرا كعضو فى لجنة الأممالمتحدة لبناء السلام، فضلا عن اختيارها كمُيسر مشارك للمراجعة الدورية لهيكل بناء السلام لعام 2025، فى كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن. إن قيادة مصر فى حفظ السلام تمضى لأبعد من المساهمة بقوات؛ إذ تلعب دورا فعالا فى صياغة التفكير الاستراتيجى حول جهود إصلاح عمليات حفظ السلام. وقد اضطلعت مصر بدور ريادى بتقديمها لرؤية لعمليات حفظ سلام تراعى السياقات المختلفة وتتسم بالابتكار والشمول، وذلك من خلال مركز القاهرة الدولى لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام وهو مركز تميز إفريقى. ويُركز مركز القاهرة فى جهوده على الحاجة إلى الوقاية وحماية المدنيين وبناء الشراكات الإقليمية، جنبًا إلى جنب مع تعزيز مشاركة المرأة فى حفظ السلام، اتساقًا مع أجندة المرأة والسلام والأمن. ومن خلال منتدى أسوان السنوى، الذى يُنظمه مركز القاهرة، تستمر مصر فى دعم الحلول الإفريقية وتعمل على تعزيز التآزر بين حفظ السلام وبناء السلام. إن هذا العمل، الذى يجرى بتعاون وثيق مع الأممالمتحدة فى مصر، لهو مثال قوى على فعالية التعاون فيما بين بلدان الجنوب العالمى وقيمة الحلول الإقليمية. وتُترجم مصر ذلك عمليا بمساهمتها الفعالة فى تدريب حفظة السلام النظاميين الأفارقة والدوليين من خلال منشآت خاصة تُديرها وزارة الداخلية عبر مركز المركز المصرى للتدريب على عمليات حفظ السلام، ووزارة الدفاع، من خلال جهاز الاتصال بالمنظمات الدولية. كذلك، فإن مصر داعم قوى لمبادرة الأمين العام للأمم المتحدة، «العمل من أجل السلام» (A4P). وفى العام 2018، نظمت مصر مؤتمرا تاريخيا رفيع المستوى كان هدفه تحسين فاعلية عمليات حفظ السلام. وقد أثمر ذلك الحدث عن «خارطة القاهرة لعمليات حفظ السلام»، وهى إطار عمل راسخ من الالتزامات المشتركة التى اعتمدها الاتحاد الإفريقى لاحقا، فى العام 2020. وهذا العام، وفيما نتذكر 4430 من حفظة السلام الذين جادوا بأرواحهم فى سبيل السلام، فإننا ينبغى أن نذهب لأبعد من مجرد إحياء اليوم، وذلك بالعمل على صون المبادئ التى قدم حفظة السلام التضحية الكبرى فى سبيلها. لقد جاد أكثر من 60 شهيدًا من حفظة السلام المصريين بأرواحهم أثناء خدمتهم ضمن عمليات الأممالمتحدة فى أنحاء العالم، وهو تذكير قوى بالمخاطر المتنامية التى يخوض حفظة السلام غمارها وبواجبنا الجماعى نحو ضمان ألا يُتركوا أبدا من دون الوسائل التى تُمكنهم من أداء مهمتهم. جددت مصر التزامها القوى بتعزيز عمليات حفظ السلام الأممية فى مؤتمر الأممالمتحدة الوزارى لحفظ السلام لعام 2025 والذى انعقد مؤخرًا فى برلين فى مايو الجارى، وذلك من خلال خطط لنشر حفظة السلام، وإعداد ضباط يتمتعون بأعلى مستويات التدريب. وتعهدت بتوفير قدرات متخصصة، ونشر أفراد مؤهلين فى بعثات الأممالمتحدة، وبتعزيز التدريب بالتنسيق مع الشركاء الدوليين. كما وسلطت مصر الضوء على أهمية استغلال ما توفره التكنولوجيا الحديثة من فرص لتعزيز كفاءة وفاعلية بعثات حفظ السلام الأممية، استنادًا إلى الدروس المستفادة من عمليات الانتقال الإقليمية، وتعزيز التكافؤ بين الجنسين وشددت على اعتزامها تحقيق نتائج تفوق أهداف الأممالمتحدة لمشاركة المرأة فى الأدوار النظامية. وبينما تواصل الأممالمتحدة مواجهة التحديات الهائلة، وفى سياق إقليمى تخيم عليه نزاعات متعددة، تقف مصر راسخة كشريك مستقر يُعتمد عليه لصون السلم والأمن الدوليين. ليس هذا فحسب، بل عبرت مصر عن استعدادها لتوفير جميع أوجه الدعم لمبادرة الأممالمتحدة 80 هذا العام من أجل إنجاحها من خلال العمل على ضمان الفعالية والترشيد للمساعدة فى مواجهة التحديات المالية الحادة التى تواجه الأممالمتحدة وحفظ السلام. وفى هذا الصدد، فإن استعداد مصر وجاهزيتها لاستضافة وكالات الأممالمتحدة وبرامجها ومكاتبها التى قد تكون بصدد نقل مقراتها بموجب مبادرة الأممالمتحدة 80، هو موضع تقدير واحترام. إن موقع مصر الاستراتيجى فى ملتقى الطرق بين إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط يجعلها مركزا طبيعيا للتواصل والتعاون. وتوقيتها المركزى وقربها من مناطق الأزمات الرئيسية يجعل منها موقعًا مثاليًا وفعالًا يساهم فى تقليل النفقات، ويقلل زمن الرحلات ويُسهم فى سلاسة التنسيق. كما تُقدم مصر نفاذًا مباشرًا للبحرين الأحمر والأبيض المتوسط عبر قناة السويس وهى شريان حياة حيوى للتجارة العالمية فتوفر بذلك ربطًا بحريًا لا يُضاهى. فضلًا عن مطاراتها الدولية وقربها الجغرافى من مناطق الصراع بما يعزز إجمالًا من أهميتها كمركز للدبلوماسية، والاستجابة للأزمات، وجهود حفظ السلام وتقديم المساعدات الإنسانية. هذا وتستضيف مصر العديد من المنظمات والمكاتب الدولية والإقليمية، بما فى ذلك مقر جامعة الدول العربية، مع أكثر من 140 من السفارات المُمثلة فى القاهرة، لتظل بذلك مركزًا جيوسياسيًا، فى ظل تواجد أممى قوى بالفعل، وبنية تحتية عصرية، ومستويات أمان تحظى بتقدير شديد. يشير الأمين العام للأمم المتحدة، بأن «العالم يحتاج اليوم أكثر من أى وقت مضى إلى الأممالمتحدةوالأممالمتحدة تحتاج إلى أن يكون عملها فى حفظ السلام كاملَ العُدّة للتعامل مع حقائق اليوم ومواجهة تحديات الغد». ومع إدراكنا لما تتعرض له بعثات حفظ السلام من ضغوط، فإننا بتجديد العزيمة متعددة الأطراف، وبإتاحة الموارد الكافية، والإصلاحات الجريئة، نستطيع تمكين حفظة السلام ليبقوا قوة لا غنى عنها من أجل السلام والاستقرار، والأمل فى عالم مضطرب. وتظل مصر بالتعاون مع الأممالمتحدة فى صدارة الأمم التى تقدم هذا الدعم. بقلم السفير خالد البقلى، مساعد وزير الخارجية للشئون متعددة الأطراف وإلينا بانوفا، المُنسقة المُقيمة للأمم المتحدة فى مصر