بحزم وجدية تعمد سيد عثمان إظهار استعداده للموت فى سبيل تلك القطعة الزراعية المطلة على شارع فيصل الشهير بالقاهرة: «لن أتركها مهما حدث، جدى حكى لى بالتفصيل عن الحياة التى عاشها مرتبطا بهذه الأرض، ليس لدى استعداد الآن للابتعاد عنها». تلك الأرض الزراعية يمر من أمامها الآلاف يوميا منشغلين بزحام الشارع دون الاهتمام بتلك المساحة الخضراء ذات الأسوار العالية إلى جوار شركة المطاحن على شارع فيصل، لكن موقعها المتميز دفع البعض إلى السؤال عن سبب بقائها حتى اليوم، خصوصا من يطمحون فى البناء على هذا الموقع المتميز الذى يقع على مسافة معقولة من ميدان الجيزة. بين السور المتهدم واللافتات العظيمة ممر ضيق يخترق المساحات الخضراء يستخدمه هواة اختصار الطرق، وفى نهاية تلك المشّاية عشة تجلس فيها الحاجة صباح عواض (63 سنة) حيث تبيع الخضراوات لزبائنها من أهالى الحى. أدوات عمل الشاى وطهى الطعام أحيانا جاهزة للعمل، ولا يقلقها سوى مصير تلك الأرض الزراعية. وتروى القصة كاملة: «كانت تلك الأرض ملكا لأحد الإنجليز فى فترة ما قبل الثورة، وكان والد زوجى يعمل بها حتى تحولت إلى تبعية الإصلاح الزراعى، وظللنا موجودين بها حتى أجرتها مدرسة الزراعة الثانوية بشارع الهرم، وظللنا كما نحن فى جوارها». يشير ابنها سيد إلى عمارة مجاورة حيث كان يسكن قائلا: «فى تلك الناحية ولد والدى قبل سبعين عاما، وكنا نضع أيدينا على مساحة تساوى أضعاف مساحة الأرض الزراعية المتبقية الآن». ما زالت الأم محتفظة فى ذاكرتها بأسماء عائلات الطالبية حيث تقع الأرض حاليا وقد تحولت أراضيهم اليوم إلى مساكن وعمارات تقليدية بعد نشوء حى فيصل كفرصة للاستثمار العقارى، تعلق على ذلك: «شارع فيصل نفسه كان ترعة تروى تلك المنطقة»، بينما يكمل ابنها سيد: «بعد ذلك أعد جدى طريقة أخرى للرى»، مشيرا إلى طلمبة المياه المجاورة لعشتهم. لا أحد منهما يعتقد أنه بالإمكان أن تذهب تلك الأرض بعيدا عن أيديهم، فالسائر على تلك المشاية يلاحظ عبارات كتبها سيد بالطلاء على السور المجاور للأرض حيث شركة المطاحن.. «احذر النصابين.. الأرض خاضعة لوضع اليد وتابعة للاصلاح الزراعى ومدرسة الزراعة». وسط تلك الصورة المشوشة اختفت المعلومة التى أكدها مصدر فى هيئة الإصلاح الزراعى حين ذكر باقتضاب: «الأرض تابعة للإصلاح الزراعى وتم سحبها من مدرسة الزراعة التى كان يتدرب طلبتها فى تلك المساحة الخضراء، وتم تأجيرها مؤخرا لمدة 25 سنة قادمة لإحدى الشركات». أما الفقرة الأهم فهى عن أن تلك المساحة الخضراء لن تبقى كما هى، بل ستتحول إلى مشروع تجارى ملائم لما حولها من مساكن. هذه المعلومات يغفلها سيد وعائلته ويشكك فيها تماما وتصيبه بالذعر، فهم لم يتزحزحوا من مكانهم منذ عقود طويلة، كل ما هناك أن أشار سيد إلى مساحة فدان داخل تلك الأرض ذكر أنها تابعة له متراجعا عن تمسكه بها كلها، بينما جاور المساحات الأخرى طلاء آخر باسم جديد. «حتى لو عرضت علىّ أموال لترك الأرض لن أقبل». ملكة.. كفر.. ملكة خلف هذا الغيط الذى ينتج مزروعات بسيطة يقع «شارع العمدة» الذى لا يخفى الأصل القروى لتلك المنطقة المجاورة لكفر طهرمس. قرية الطالبية تحولت إلى محطة ومنطقة سكنية وكذلك كفر طهرمس. يدير سائق الميكروباص ظهره لشارعى فيصل والطالبية حيث الغيط الأخير، مناديا «ملكة.. كفر.. ملكة» متجها إلى شارع الملكة فى كفر طهرمس، هناك تعلو العمارات الحديثة لافتات من نوعية «شقة إيجار جديد»، ولم يبرر بهاء بعض تلك العمارات حالة الطريق السيئة.. حركة البناء لا يعطلها شىء، تتخللها بعض المساحات الخضراء الغامضة، الأسطى مصطفى «الميكانيكى» يشرف على إحداها. ذكر قصة مؤثرة عن وصية والده بأن يتمسك أبناؤه بهذه الأرض وألا يفرطوا فيها، وقال: «لسنا فى حاجة للمال، ونحن ورثة كثيرون»، وأشار إلى ساحة ركن السيارات المجاورة قائلا: «هذه الأرض كانت لخالى، لكنها بارت فحولها إلى ساحة سيارات»، ثم عاد إلى السيارة التى كان منكبا عليها مع صبيته. سخونة الأسعار فى متر الأرض هنا لا تصل بأى حال من الأحوال إلى سخونتها قرب شارع فيصل. هنا وصل متر الأرض فى بعض الأماكن إلى أكثر من 8 آلاف جنيه، بينما تصل إلى أربعة أضعافها فى شارع فيصل حسبما يردد السكان. أحد قدامى الساكنين فى كفر طهرمس شكك فى نية جاره الأسطى مصطفى الاحتفاظ بالأرض، وقال: «من المؤكد أنه سيبيعها، من سيزرع الآن وسط هذا العمران؟!». بعض المساحات الأخرى كانت تابعة هى الأخرى لهيئة الإصلاح الزراعى التى حافظت عليها حتى الآن، أشار الرجل إلى بعض المبانى تحت الانشاء قائلا: «هذه العمارات أنشئت على أرض الإصلاح الزراعى، لكن فى يوم من الأيام أتى أحد الأشخاص مع الشرطة لتسلمها، وانتهى الأمر دون حسم». حسب قواعد وزارة الزراعة وهيئة الإصلاح الزراعى فبإمكان أحدهم أن يسترد أرضا كانت تملكها عائلته إن أثبت ذلك بحكم من المحكمة، أو أن ينال تعويضا ماليا عنها.. أما على أرض الواقع فلم يعد أحد هنا يتحدث عن الزراعة، لم تعد مطلبا لأحد، الكفر انتهى، وبيت العمدة أصبح ذكرى، وتحول كل شىء إلى جزء من العاصمة. كلما توغل السائر فى اتجاه شارع فيصل موليا ظهره لكفر طهرمس ومن خلفها صفط اللبن انعدمت المساحات الخضراء، عدا ذلك الغيط الأخير فى شارع فيصل حيث يجلس سيد عثمان فى ورشته متحفزا بعد أن زارت الشرطة الموقع قبل أسابيع قليلة فقط. وتحول الوضع إلى مزيد من التحفز بينه وبين حارس آخر يتبع الآن المستأجر الجديد. الخواجة الإنجليزى الذى كان مالكا للأرض فى يوم من الأيام لم يتبق من زمنه سوى أهل سيد عثمان الباقين جوار الغيط الأخير فى شارع فيصل.. رغبات سيد الذى يطمح فى أن يكون له نصيب من تلك الأرض التى ارتبط بها أبيه رغم أنها تحت سلطة الإصلاح الزراعى فى الغالب لن تتحقق، حتى إن ظل متمسكا بذكرى جده وسلطته القديمة. فى الزاوية الحمراء: مضطرون للزراعة العد التنازلى لضياع الخضرة