لا شىء أقسى علينا من اليأس إلا الأمل لأننا نظل معلقين به ويتجدد هذا التعلق على أبسط الأسباب التى قد يضيع العمر ولا تنتهى ولا تأتى بما نريد فى النهاية، وهكذا عاشت حمضة لسنوات طويلة أسيرة الأمل تنتظره، أو تنتظر الربيع كما اعتادت أن تطلق عليه، الربيع الذى ودعته منذ سنوات طويلة لا تستطيع أن تحصيها بل تعرفها باللحظة التى فقدت فيها أغنامها وودعت الصحراء دون رغبة منها على أمل العودة، ولم تكن تعلم أنها سوف تصبح هى وعائلتها أسرى الانتظار لسنوات طويلة يتغير فيها كل شىء كانت تعرفه حمضة. بين صفحات رواية «باقى الوشم» للكاتب عبدالله الحسينى الصادرة عن منشورات تكوين/ مرايا ندخل إلى تاريخ الكويت من بوابة الصحراء، بالتحديد مرحلة انتقال البدو والعائلات منها إلى المدينة، يرصد ما فقده هؤلاء خلال رحلات انتقالهم الجبرية فقد كانت هناك محاولات لتغيير شكل الصحراء والمدينة فتغيرت خارطة عائلات واختلطت الأوراق وإذا بنا أمام أصعب أنواع الشتات حين تغترب داخل وطنك، تنتمى له ولا تنتمى، فالانتماء الذى تعرفه أنت غير ذلك الذى فرضته الدولة ومن ثم الظروف حتى عرف الشعب للمرة الأولى جنسية تسمى «البدون». عن هؤلاء يتحدث الكاتب برصد ظروف معيشتهم بين القوانين وبين انتظار حمضة الذى لا ينتهى ويتمثل فى شعورها الدائم بالبرودة بالرغم من ارتفاع درجات الحرارة. تعيش حمضة مع ابنها وعائلته الذين تكتفى منهم بحجرة بسيطة تطل على فناء المنزل وتتمكن فى جلستها من متابعة حركة النجوم فتبدو حمضة وكأنها تعيش فى عالم آخر وهى كذلك بالفعل، أو لعل ذلك ما كان فى استطاعتها أمام هذا الرفض والتضييق شأنها فى ذلك شأن كثيرين ممن يحملون جنسية «البدون» لمجرد مشكلات حدثت شككت فى هويتهم، لتصبح حمضة هنا فى مضمونها كناية عن وضع المجتمع الذى انقسم إلى جزأين كل منهم يعيش فى معزل عن الآخر وكان شعور حمضة بالبرد هو شعور الغربة فى الوطن. استطاعت حمضة أن تعيش بمعزل عن هذه الحقائق ومعاناة من هم على شاكلتها وكأنها لم تفقد حياة الصحراء وتودعها، بل تستغرق فيها بين حين وآخر وتفرضها على من حولها حين تتفقد أغراضها القديمة التى لم تفقد الأمل فى استخدامها مرة أخرى فى يوم من الأيام، يذكرنا الكاتب هنا بالعادات والتقاليد التى نحاول استدعائها فى غير موضعها وسط أناس يتنكرون لها ويرفضونها فكيف تفقد حمضة جنسيتها وهى تحمل على كاهل سنوات عمرها الطويلة هذا التاريخ؟ وما يزيد الأمر سوء أنها تستيقظ من فترة لأخرى على قسوة الواقع فى معاناة ابنها الوحيد وابنتها وأحفادها. خليف هو ابنها الوحيد الذى لم يستطع أن يفعل شىء فى مواجهة الجنسية التى تحرمه من الكثير من الحقوق سوى أن يلتحق بعمل تابع للدولة يوفر له المسكن وفرص تعليم غير مستقرة لابنائه، فتتحول حياته إلى نوبات غضب بين غياب الأم وقسوة الواقع. وضحة هى الابنة الوحيدة، ضحية محاولات تغيير الهوية بين ليلة وضحاها دون أن نعرف ما السبب، هل هو رغبة فى الهروب مما أورثنا إياه الماضى من متاعب وحروب وتوجهات سياسية طاحنة؟ هل هى محاولات للتقدم؟ وهل يعنى التقدم أن تتخلى عن كل ما كان يرمز إليه الماضى؟ فإن لم يكن لك تاريخ تستند إليه متمثل فى العادات والتقاليد سوف تعود حتما بعد حين خالى الوفاض لا تعرف الربيع أبدا، تصبح الحياة إما قيظ يعنى الحرمان إما شتاء يغرقك فى المزيد من الشتات الذى بإمكانه أن يحول المجتمع كله إلى «بدون» فالوطن ليس جنسية على ورق بل هو أفكار وتاريخ وصراعات تشارك فيها وتتحمل تبعاتها. وبين هذه التساؤلات لم تجد وضحة مفر سوى الهجرة إلى كندا بالرغم من معارضة أمها، فإذا بها تواجه المصير الأقسى على الإطلاق. وتستمر الأحداث بين انتظار حمضة ويوميات أسرتها ورجوعها الخاطف للتاريخ والعودة إلى الواقع الذى رغم مرارته ينتظر الجميع أن يتغير، وخلال ذلك تكشف أن حمضة اسم فى واحد من معانيه يعنى المذاق اللاذع ولذلك معنى روائى بالوجود القوى مهما شعر من حولها بالنفور، فهى حاضرة يصعب الخلاص منها، كما يتضح العنوان فالوشم الذى يرسم على جسم الإنسان بأصعب الطرق ومنذ الصغر يصعب الخلاص منه ومهما حدث له من تغيرات فى الشكل والجسم يظل منه أثر لا يمحى وهكذا الانتماء للوطن هو وشم فى القلب لا يمحى سوى بتوقف القلب إلى الأبد.