تدعو مشاهدة حادثة تحطم قطار بالحركة البطيئة، أو أزمة الدين اليونانية، إلى التساؤل حول ما حدث للتضامن الأوروبى. وتتوافر لدينا نصف الإجابة فقط، نتيجة للاستماع إلى توضيح الساسة فى برلين بشأن الناخبين الألمان البخلاء الذين لن يهضموا فكرة إنقاذ أبناء عمومتهم المبذرين فى القارة. تنطوى القصة على ما هو أكثر من الصدام الغاضب بين إسراف اليونانيين والترفع الأخلاقى الألمانى، حيث تكمن وراء التهديد الوشيك حقيقة أكثر إزعاجا، وبالرغم مما سببته الأزمة من اضطراب، فقد كان هناك أمر حتمى بشأن الاتحاد الأوروبى على نحو مؤكد. فالآن يبدأ المشروع فى التفكك. يحمل مأزق اليونان، واستجابة شركائها فى منطقة اليورو، أخطارا على مستويات متعددة: السيادة المفترضة داخل إطار العملة الموحدة، والعدوى، حيث تختبر الأسواق مرونة البرتغال وإسبانيا وأيرلندا، وتحطم الثقة السياسية وآليات الدعم المتبادل التى يعتمد عليها الاتحاد النقدى. وكما لاحظ الزميل ألان بيتى من الفايننشال تايمز فى تعليق لاذع فى بداية هذا الأسبوع، فقد أكدت أحداث الفترة الأخيرة أيضا، الافتقار الكامل للكفاءة لدى هؤلاء المسئولين عن إدارة شئون منطقة اليورو. ونظرا لدور أنجيلا ميركل المحورى، ربما لا يكون هناك مجال للدهشة بسبب التذبذب. إذ قدمت استجابة برلين المترددة على انهيار ليمان براذرز نموذجا لعدم الجدارة، إلى حد ترك السلطات مرة أخرى تلعب لعبة اللحاق بالأسواق التى لا ترحم. حتى لا أتهم من أصدقائى الألمان بأننى اتخذ جانب المسىء ضد من أسىء إليه، يحق للسيدة ميركل أن تقول من جانبها إن أثينا يجب ألا تكافأ نتيجة استهانتها بالتزاماتها الرسمية إزاء شركائها. ولا فائدة من تحرير الشيكات إذا لم يكن لدى اليونانيين خطة مالية موثوق بها. وكما يجب أن تكون برلين قد تعلمت، فأينما تشير إصبع الإدانة يأتى الدفاع عن النفس. كما يتحول ثمن التمسك بالقيم الأخلاقية إلى إحداث فوضى، والفوضى لا تميز كما تفهم جيدا البنوك الألمانية المالكة لمليارات اليورو من الدين السيادى اليونانى. وقد يتعين علينا فى بعض الأحيان التعايش مع المخاطرة الأخلاقية. ويتمثل مصدر القلق الأكبر فى ما ينبئنا به كل ذلك بشأن التماسك الأصلى للاتحاد الأوروبى. فحتى وقت قريب جدا، إذا ما سأل شخص ما عما سوف يبدو عليه الاتحاد الأوروبى، كانت إجابتى، لنقل منذ عشرين عاما، هى أنه من الأجمل ألا تتغير ملامحه الأساسية كثيرا. وبلا شك، سوف يتعين تجاوز مقولتى، إذ تغير الغرض الرئيسى مع نهاية الحرب الباردة، وإعادة توحيد ألمانيا، والتوسع فى اتجاه أوروبا الوسطى والشرقية. ولكن الخلاصة العقلانية إزاء مجموعة قوى متوسطة المستوى ذات حدود وقيم ومصالح مشتركة، أن من الأفضل لها أن تكون معا بدلا من التفرق. لقد بشر صعود القوى الجديدة الصين والهند والبرازيل وغيرها بدور أقل وزنا لأوروبا على الساحة العالمية. ولن تتنازل الدول المعتزة بنفسها كفرنساوألمانيا وبريطانيا وإسبانيا عن هوياتها؛ ولكنها سوف تسعى إلى مصالحها بشكل جماعى. وسوف تكون «أوروبا» هنا وهناك دائما، مصدرا للإثارة كما استطاعت أن تفعل فى غالبية الأحيان. هذا ما كنت أراه. وحتى الآن، لا أزال أرى أن المنطق مقنع. ذلك أننا إذا نظرنا إلى أى مشكلة مؤثرة على الشعوب فى أوروبا من أزمة النظام المالى العالمى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومن الإرهاب والهجرة غير المحكومة إلى روسيا القوية من جديد فسوف تدلنا على الشىء نفسه: على الأوروبيين أن يعملوا معا، إذا أرادوا أن يكون لهم تأثير. بالرغم من ذلك، لم تعد أوروبا بعد تحمل طابع الحتمية. فقد أصبح فجأة من السهل تقريبا التنبؤ بتفكك الاتحاد فى المستقبل. ولا يتمثل الخطر إلى حد بعيد فى انفجار هائل حتى ولو كان عجز اليونان إزاء الصدمات الحالية عميقا ولكن فى التضاؤل الناتج عن غياب القيادة السياسية. مازالت الحكومات الأوروبية تداهن منطق التعاون، ولكنها لم تعد راغبة أو قادرة وأحيانا كلا الأمرين فى قبول الآثار المترتبة على ذلك. فهى تعرف أين تكمن مصالحها الوطنية والقارية، ولكنها تفتقد إلى العزم على الاقتران بها. وبدلا من ذلك، تتمتع ألمانيا بفرصة أن تصبح دولة «طبيعية»، تفصل ما تراه من مصالح قومية عن المصالح الأوروبية. ويتم التغاضى عن الرؤى التاريخية العميقة لهيلموت كول وسط الإصرار على ألا يظل دافعو الضرائب الألمان بمثابة صراف الرواتب للقارة. وكذلك مصلحة برلين طويلة المدى فى الاستقرار السياسى على الصعيد الأوروبى وفى الأسواق المفتوحة أمام صادراتها. تتصارع فرنسا مع ديناميكيات اتحاد لم يعد فيه الأكثر أوروبية يعنى بالضرورة الأقل فرنسية. ولا ترتبط طاقة نيكولا ساركوزى المثيرة للإعجاب بغرض إستراتيجى. وتقف بريطانيا كما هو شأنها دائما، فى المنتصف على الهوامش. وسحبت إيطاليا نفسها بقيادة سيلفيو بيرلسكونى من التأثير. وكانت هناك لحظات توقف من قبل. ولكن القواعد تغيرت. إذ حول سقوط سور برلين وانهيار الشيوعية المشروع المرتبط بالضرورة إلى أحد الخيارات فقط. وإذا وقع الاتحاد فى خطأ فستكون كل الأطراف خاسرة؛ ولكن التهديد لم يعد يبدو وجوديا. صار الاتحاد الأوروبى ضحية إحدى المفارقات المربكة للعولمة. فحتى عندما يسلب الاعتماد المتبادل العالمى سلطة الدولة القومية، فهو يزيد الضغط المحلى على الساسة فى المستوى الوطنى من أجل حماية الناخبين من انعدام الأمن فى عالم بلا حدود. وأصبحت استجابة الساسة الأوروبيين هى التضحية بالإستراتيجى من أجل التكتيكى. كما يتباهون بأنهم يستطيعون «استعادة» السلطة من الاتحاد الأوروبى ويعدون بأنهم لن يكونوا قابلين لتلقى التعليمات من بروكسل. ويفسر هذا أول مقاربة ألمانية للسيدة ميركل من العملة الموحدة؛ وتردد القادة الآخرين فى مضاهاة التصورات الدينية حول دور أوروبا فى العالم بأى شىء يشبه السياسات المشتركة. لا يوجد أى شىء غريب أو خاطئ فى سعى الساسة إلى المصالح الوطنية. فذلك هو العمل المنوط بهم. ولكن مشكلة الاتحاد الأوروبى أن الحكومات تنظر إلى هذا الآن باعتباره مباراة صفرية. أثناء فترة مصالحة ما بعد الحرب والحرب الباردة، كان تطابق المصالح الوطنية والأوروبية يتحدث عن نفسه. ويعنى تراجع نفوذ أوروبا فى عالم لم يعد ملكا للغرب أن الالتقاء أقوى من أى فترة سابقة. إلا أن تحديده يكون أكثر صعوبة بدون التهديد بحرب أو غزو. فهو يتطلب قادة ذوى مكانة من أجل تقديم الحجة لناخبيهم. انظر فى أنحاء القارة، ولن تجد مثل هؤلاء الساسة على الساحة.