أقاوم بقدر استطاعتى إغراءات المشاركة فى المناقشات التى تشتت الصف الوطنى وتحكمها الانفعالات أو المرارات التى يختزنها بعض المثقفين، وينشغلون خلالها بتصفية حساباتهم الخاصة بأكثر من انشغالهم بهم الوطن فى حاضره ومستقبله. وأستغرب كثيرا إصرار أولئك البعض على الاستغراق فى محاولة تسجيل النقاط التى تقصى الآخرين وتغتالهم أدبيا وسياسيا، فى حين أن الوطن المأزوم فى أمس الحاجة إلى استنفار سواعد الجميع وطاقاتهم، بما يجعل الاحتشاد ضرورة والإقصاء جريمة لا تغتفر. فى الوقت ذاته، فإننى لا أرى مصلحة أو جدوى فى نقل تلك الحروب الأهلية العبثية إلى وسائل الإعلام لتتحول إلى مادة للإثارة والتحريض، تسهم فى التشتيت وتسميم أجواء الاحتشاد الوطنى المنشود. بين أيدينا نماذج عدة لتلك الحروب الأهلية، التى يشكل اشتباك العلمانيين مع الإسلاميين أحد أهم موضوعاتها. وهى معركة سقيمة ممتدة، لم يعد يقال فيها شىء جديد، وكل ما يتردد فى سياقها ليس أكثر من اجترار للقديم وإعادة إنتاج له، بحيث لم يعد يستحق أن يتوقف المرء عنده، مع ذلك فلا أخفى أن التراشق بين الجانبين كثيرا ما يتجاوز حدود المقبول أو المحتمل، الأمر الذى يكشف عن أن ثقافة عدم احترام الآخر ناهيك عن احتوائه لم تترك فئة إلا وتمكنت منها. قبل أيام قدر لى أن أتابع حلقة تليفزيونية استضافت أحد المتدينين ونفرا من أتباع إحدى الفرق المثيرة للغط هذه الأيام، بسبب الشك فى معتقداتها. ورغم عزوفى على متابعة مثل هذه المناقشات، خصوصا حين يكون أطرافها من غير أهل الاختصاص، إلا أن الفضول دفعنى إلى الاستماع لما قيل. وما أن بدأت الحلقة حتى وجدت أن النقاش احتدم، وأن الإثارة حققت هدفها الكامن، حين اتهم صاحبنا المتدين الآخرين بأنهم مرتدون بدَّلوا دينهم وخرجوا من ملة الإسلام. وهى النقطة التى وقفت عندها، ووجدتها من تجليات ظاهرة التسرع فى تكفير الآخرين التى تمثل محظورا يستحق التحذير منه، نظرا لخطورة الآثار التى تترتب على الوقوع فيه. وقد وجدت أن بعض أهل العلم قالوا كلاما نفيسا فى الموضوع يجب أن نستعيده ونستوعبه فى هذه المناسبة، لعل الذكرى تنفع المؤمنين. فى حديثه عن الحد الفاصل بين الإسلام والكفر، قال الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت إنه من لم يؤمن بوجود الله ورسله وكتبه، ولم يؤمن بالبعث والجزاء فى الآخرة وأنكر ما حرم الله وما أوجب، لا يكون مسلما ولا تجرى عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم بعضهم وبعض، وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشىء من ذلك يكون كافرا عند الله، يخلد فى النار وإنما معناه أنه لا تجرى عليه فى الدنيا أحكام الإسلام. فلا يطالب بما فرضه الله على المسلمين من العبادات، ولا يمنع مما حرمه الإسلام كشرب الخمر وأكل الخنزير والاتجار بهما، ولا يغسله المسلمون إذا مات ولا يصلون عليه، ولا يرثه قريبه المسلم فى ماله، كما لا يرث هو قريبه المسلم إذا مات. أضاف الشيخ شلتوت فى فتواه: أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشىء منها بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا، أو طمعا فى مال زائل أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد. فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة أو صورة صحيحة لكنه لم يكن من أهل النظر. أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها. ويظل ينظر ويفكر طلبا للحق، حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود فى النار عند الله. وخلص من ذلك إلى القول بأن الشعوب النائية التى لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة. أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم فى بحثها، بمنجاة من العقاب الأخروى للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر.. علما بأن الإسلام حين دعا الناس لأن يؤمنوا به، فإنه لا يحملهم على ذلك بالإكراه (المنهى عنه شرعا) ولا يحملهم عليه بالخوارق، وإنما يحملهم عليه بالبرهان الذى يملأ القلب وينير العقل. (الإسلام عقيدة وشريعة ص18و21)