فى العقد الأخير من القرن الماضى احتفل العالم كله بمرور خمسمائة عام على ما تعارف مؤرخو الغرب على تسميته بحركة الكشوف الجغرافية، ففى العقد الأخير من القرن الخامس عشر الميلادى انطلقت رحلات متتالية من غرب أوروبا تجوب بحار العالم ومحيطاته فى محاولة للكشف عن عوالم جديدة يندفع الأوروبيون إليها لاستعمارها. وأصبحت قارات أفريقيا وآسيا والأمريكتين مسرحا لصراع دام بين المستكشفين الأوروبيين وسكان البلاد الأصليين، وصارت كذلك ساحة للتنافس الاستعمارى بين الدول الأوروبية الكبرى. لكن هل كانت تلك الرحلات التى قام بها رحالة مغامرون من أمثال كريستوفر كولومبس وفاسكو دا جاما وماجلان، كشوفا لعوالم جديدة بالفعل؟ لقد قام المصريون القدماء برحلات كشفية وحملات متوالية فى القارة الأفريقية منذ ما يقرب من ألفى وخمسمائة عام قبل الميلاد، أى أن الرحالة والمستكشفين المصريين قد سبقوا أقرانهم الأوروبيين بما يقرب من أربعة آلاف سنة فى محاولة التقدم لكشف القارة الأفريقية. بل إن كشوف المصريين الأولى توغلت داخل القارة بحثا عن منابع النيل فى سعى لإقامة العلاقات مع الشعوب التى تعيش على ضفتى النهر الذى يهب لمصر الحياة، أما كشوف الأوروبيين فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى فقد اقتصرت على استكشاف السواحل الأفريقية فقط دون التوغل إلى داخل القارة. لقد استمرت جهود المصريين القدماء فى كشف أغوار القارة الأفريقية وفى الترحال نحو سواحل آسيا الجنوبيةالغربية طوال عصور حضارتهم القديمة التى امتدت لبضع آلاف من السنين. ولعل أشهر رحلاتهم هى تلك التى نظمت فى عصر الملكة العظيمة حتشبسوت، والتى توجهت فيها السفن المصرية إلى بلاد بونت، وقد سجلت تفاصيل تلك الرحلة على جدران معبد حتشبسوت الشامخ إلى الآن بالبر الغربى بالأقصر والذى يعرف باسم معبد الدير البحرى. وربما كانت الرحلة البحرية المصرية الفينيقية المشتركة التى دارت حول القارة الأفريقية فى عصر الملك نخاو الثانى فى أوائل القرن السادس قبل الميلاد هى أهم الإنجازات فى مجال الكشوف الجغرافية المصرية، حيث انطلقت السفن التى أرسلها نخاو من شواطئ مصر على البحر الأحمر وسارت بمحاذاة شاطئ القارة الأفريقية حتى أقصى جنوبها، ثم صعدت السفن شمالا بمحاذاة الشاطئ الغربى للقارة لتعود إلى الشواطئ المصرية على البحر المتوسط ومنها إلى النيل. فكانت تلك الرحلة الأسطورية التى تناقلت أخبارها المصادر القديمة أول محاولة بشرية معروفة للالتفاف حول القارة الأفريقية قبل نجاح فاسكو دا جاما فى القيام بهذا العمل بألفى عام. هذا ولم تكن جهود المصريين القدماء فى كشف القارة الأفريقية قاصرة على تلك الرحلات الكبرى التى شهدها عصر الدولة الحديثة أو عصور الأسرات الفرعونية الأخيرة، لقد اهتم المصريون القدماء بالرحلات الكشفية منذ عصر دولتهم القديمة الذى يعود إلى بدايات الألف الثالث قبل الميلاد، ومن أشهر الرحالة الذين سجلوا لنا أعمالهم الكشفية الرحالة والقائد العسكرى حرخوف قائد الجنود ومدير كل البلاد الأجنبية فى الجنوب كما يطلق عليه فى الوثائق الرسمية، وقد قام حرخوف بعدة رحلات توغل فيها فى بلاد النوبة والصحراء الغربية، وربما يكون قد وصل إلى أواسط أفريقيا. فمن هو حرخوف ومتى عاش وقام برحلاته؟ حرخوف من رجال الدولة البارزين فى عصر الأسرة السادسة شارك فى تحقيق السياسة التى رسمها ملوك هذه الأسرة فى التوسع والعمل على اكتشاف البلاد الواقعة إلى الجنوب من مصر وإقامة علاقات وطيدة معها، وقد عمل فى ظل حكم مرن رع الذى استمر من سنة 2247 إلى سنة 2241 قبل الميلاد وأخيه غير الشقيق بيبى الثانى الذى استمر فى الحكم حتى سنة 2148 قبل الميلاد، وفى عصر هذه الأسرة امتدت عمليات التوغل المصرى حتى إمارة دنقلة، ومن خلالها استطاعت مصر الاتصال بأعماق أفريقيا، وكان حرخوف أحد أبرز المستكشفين المصريين فى ذلك العصر، وقد سجل رحلاته على جدران مقبرته التى دفن بها فى أسوان قال حرخوف فى وصف رحلته الأولى: «أرسلنى جلالة مرن رع سيدى، كما أرسل والدى السمير الوحيد والمرتل إزى إلى بلاد إيام، لأكشف الطريق الذى يؤدى إلى البلاد الأجنبية، وقد قمت بهذا العمل فى ستة أشهر فقط، وقد عدت بكل أنواع الهدايا من هذه البلاد، وقد أثنى على كثيرا من أجل ذلك». وكما هو واضح من رواية حرخوف فإن رحلته الأولى لم تكن بداية للكشوف الجغرافية المصرية فى القارة الأفريقية بل هى استكمال لرحلات سابقة منها ما قام به والد حرخوف نفسه فى عصر الملك مرن رع. لقد كان عصر هذا الملك من أزهى العصور فى مجال الكشوف الجغرافية فى زمن الدولة القديمة، ولم تقتصر جهوده على إرسال البعثات الكشفية والحملات العسكرية بل قام كذلك بتوفير السبل لمثل هذه البعثات والحملات. فتذكر لنا النقوش الأثرية التى ترجع إلى عصر مرن رع أنه أمر بحفر خمس قنوات عند الشلال الأول لتسهيل سير السفن وتأمينها فى مواجهة الصخور التى كانت تعثر من الرحلات الكشفية النهرية جنوبأسوان، وهكذا لم تقف الطبيعة فى وجه طموحات الإنسان المصرى القديم فقد تمكن بعبقريته من قهرها والسيطرة عليها، فانتصر أبناء مصر فى الألف الثالث على الطبيعة وتمكنوا من العبور إلى القارة عبر نهر النيل، مثلما انتصر أسلافهم قبل ذلك بعدة آلاف من السنين على الطبيعة أيضا عندما روضوا النهر الجامح ليضعوا أسس حضارتهم الأولى. لقد تعددت رحلات حرخوف الأفريقية والتى وطد خلالها النفوذ المصرى فى البلاد الجنوبية، وكشف للمصريين عبرها عن عوالم جديدة كانت مجهولة بالنسبة لهم، وقد كانت رحلات حرخوف مثل رحلات كثير من غيره من الرحالة مصحوبة أحيانا بحملات عسكرية لتحقيق التوسع الإقليمى وبسط النفوذ السياسى. ويروى لنا الرحالة حرخوف على جدران مقبرته قصة رحلته الثالثة والأخيرة فى زمن الملك مرن رع والتى كانت لها أهداف عسكرية واضحة فيقول: «أرسلنى جلالته مرة ثالثة إلى بلاد إيام، فرحلت من ستشت المقاطعة السابعة فى الوجه القبلى عن طريق منطقة الواحات، وقد وجدت رئيس إيام الذى قام ضد بلاد لوبيا ليحاربهم حتى الحدود الغربية. وقد سرت بعده لغاية بلاد لوبيا، وأخضعته لدرجة أنه عبد آلهة مليكى، وبعد أن أخضعت رئيس إيام، نزلت حتى إرثت، وحدود سشو، ووحدت رؤساء إرثت وسشو وواوات، ثم عدت بنحو ثلاثمائة حمار محملة بالبخور والأبنوس والزيت وجلود الفهود والعاج وكل المنتجات الطبية، وعندما رأى رؤساء إرثت وسشو وواوات عظم عدد جنود إيام وقوتهم، وهم الذين عادوا معى إلى البلاط، وكذلك الجنود الذين كانوا قد أرسلوا معى، فإن هؤلاء الرؤساء أحضروا لى هدايا من الثيران والحيوانات الصغيرة، وقادونى نحو طرق جبال إرثت، وقد كانت عينى ساهرة بفطنة أكثر من كل سمير ومدير قوافل من الذين أرسلوا إلى إيام قبلى، ومن ثم عاد فى النهر الخادم حرخوف نحو البلاط». ولم تنقطع رحلات حرخوف إلى الجنوب بعد وفاة الملك مرن رع، فقد اتبعت الدولة فى عصر سلفه الطفل الصغير بيبى الثانى نفس السياسة تجاه المناطق الجنوبية. فاستمرت رحلات حرخوف ومن بعده مغامرون آخرون من رجال الملك بيبى وصلتنا قصصهم فى نقوش متعددة تسجل صفحات مضيئة من قصة الحضارة المصرية العظيمة.