تعطلت ساعة الحائط فى غرفة المكتب، وتوقف عقربا الساعات والدقائق عن مبارحة مكانيهما، ولكن لأسباب فيزيائية متعلقة بما تبقى فى البطارية من جهد، ما برح عقرب الثوانى ينتفض فى حركة مبتورة لا تُقدم أو تؤخر من موضعه، ولكن يصدر عنها تكتكة مخادع حال دون إدراكى لتعطل الساعة، وكنت أتعجب من قدرتى الخارقة على مطالعة الساعة فى التوقيت ذاته كل يوم، وصرت أشعر بأن الوقت لا يمر أو ربما مر دهر وأنا لا ألحظ، حتى أدركت أن للزمن فى غرفة مكتبى صوتا دون حركة. • • • ذكرتنى الساعة المخبولة بمقولة شكسبير الشهيرة «الزمن بطىء جدا لمن ينتظر، سريع جدا لمن يخشى، طويل جدا لمن يتألم، قصير جدا لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب»، إذن الزمن ليس واحدا، فى الوقت الذى يركض فيه لاهثا فى بقعة ما، يرقد تحت ركام عاجزا عن الحركة فى مكان آخر، وتُحسب هذه أعمارا متساوية على الجميع لمن عاش وأثمر، ومن دُفن حيا. تركت الساعة دون تغيير البطارية بسبب الكسل من إحضار السلم وإنزالها عن الحائط، كسل غير مبرر، ولكن أتاحت لى تلك العقارب المشلولة الفرصة للتفكير فى الزمن الذى نعيش فيه، وهنا أخص بالذكر أبناء جيلى وفى هذه البقعة من الكوكب، حيث كانت طفولتنا ومراهقتنا صراعا من أجل تحصيل تعليم يُتيح لنا دخول كليات القمة، وفجأة تكشف لنا أن العالم به حيوات أخرى وإنجازات أكثر تشويقا من مجرد الحصول على شهادة لن تُسهم كثيرا فى تشكيل مستقبلنا الذى يعتمد تأسيسه على معطيات أخرى. ينصحنا العارفون الفاهمون الأكبر سنا دوما بأن نقرأ التاريخ حتى نعرف المستقبل، ونتعلم من أخطاء الماضى، ولهذا أجد متعتى فى قراءة الصحف القديمة بالذات، انتهزت الفرصة اليوم وأخرجت حفنة من المقتنيات الورقية القديمة التى اشتريتها من سوق السبت، ولأنى أعشق تفسير كثير من الأحداث بأنها جرت ضمن متوالية تحت وطأة تقاطع للصدف القدرية، طالعتنى صحيفة «المقطم» عدد الخميس 15 فبراير 1951 بخبر فى الصفحة الأولى بعنوان «إعانة أطفال اللاجئين» ونصه كالتالى: «فى اجتماع المجلس التنفيذى لصندوق الطوارئ الدولى لمساعدة الأطفال المنعقد الآن تحدث نائب رئيسه الأستاذ عونى الخالدى مندوب العراق فى هيئة الأمم مطالبا بأن يوجه الجانب الأكبر من الاعتمادات لمساعدة الأطفال فى الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقال إنه لاحظ أن هناك ميلا لجعل النصيب الأكبر لأوروبا. وأيده فى هذا القول ممثلو البرازيل وجمهورية الدومينيكان وسيلان. وقرر المجلس تخصيص 159 ألف دولار للاستمرار فى تقديم المساعدات إلى الأمهات والأطفال العرب من لاجئى فلسطين لغاية آخر شهر يوليو المقبل». استكمالا للصدف وتكرار التاريخ لذاته، كان فى العدد ذاته خبر فى صفحة 3 بعنوان «أسبوع اللاجئين العرب» نصه كالتالى: «نظرا لأن حالة اللاجئين العرب الفلسطينيين فى منطقة غزة وما يعانونه من الضيق قد لفتت أنظار سيدات الأسر الكريمة إلى التفكير فى وسائل سريعة تخفف عنهم بعض ما يعانونه من بؤس وهم يجتازون أيام الشتاء الحالى بعوامله الجوية القاسية التى تفترس أجسامهم الهزيلة وبطونهم الخاوية». • • • لا تتوقف إعلانات الراديو والتلفزيون منذ بداية الحرب فى غزة عن جمع تبرعات من أجل أهالى فلسطين، وهو الامتداد للخبر السابق ذكره من سعى نساء الأسر الميسورة فى مصر لجمع تبرعات، مرت السنون ولم يتغير الواقع البائس قيد أنملة، بل زاد قسوة ووحشية، فالمعاناة لا تزال مستمرة، والعجز ذاته، وفقط تعلو أصوات المناشدة لجمع الدعم، ولم تُثمر عشرات السنين من جمع الطعام والأغطية عن إنصاف الشعب الفلسطينى وحسم القضية. كأنه كلما تقدم وتحضر العالم (وربما نقصد بهذا العالم الأول)، تراجعت الإنسانية فى بقعتنا، ولم ينلنا من التقدم سوى حفنة من الوسائل والتطبيقات التى نتوهم من خلالها أننا نعيش حياة براقة ونحصل على عدالة مُتخيلة من التضامن الإلكترونى. لو لم تكن الصحيفة بين يدى الصادرة منذ ثلاثة وسبعين عاما مؤرخة، لصلحت كعدد جديد فى نهار أحد أيام يناير البارد فى 2024، إذ تتحدث العناوين والأسطر عما يحدث للأطفال والنساء والأحياء كافة فى فلسطين، ليس فقط معاناة الحرب، ولكن تحمل البرد والجوع والمرض. مطالعة تاريخ منطقة ما وفى الوقت ذاته من العام بعد عشرات السنين فيبدو كأن الفرق بين البارحة واليوم لا يُذكر، تعنى أن الزمن فى هذه البقعة لا يختلف عن الزمن فى غرفة مكتبى، له دبيب ولكن لا يمر أو ربما يمر الدهر، ولا يهتم أحد بإحضار السلم وإنزال الساعة وتغيير البطارية وإعادة ضبط الوقت، لأن هذه المسئولية وهذا الفعل سيكشفان كم تكاسل كثيرون عن أداء الأدوار المنوط بهم أداؤها. • • • أتممت تغيير البطارية فى الساعة، وعادت تعمل بشكل طبيعى، تلف العقارب فى دوائر مفرغة، نستنزف معها طاقتنا وبهجتنا فى مقابل مزيد من الغضب والشعور بالعجز وضبابية تحول دون أن نرى موطئا لأقدامنا، فالغد هو نظير اليوم، وشبيه الأمس، وفى منطقتنا الأخيار من بنى جلدتنا ينتصرون فقط فى أفلام الأكشن محلية الصنع.