كانت مشاهدة العرض الخاص لفيلمها «جيران» بالقاهرة، بعد عرضه بمهرجان الشرق الأوسط بأبوظبى فى العام الماضى حافزا للقاء المخرجة المصرية تهانى راشد التى يمثل إنتاجها السينمائى علامات مميزة فى الفيلم الوثائقى الذى تتمسك به، فقد نالت ثمانى جوائز عن فيلمها السابق «البنات دول» 2006 وعرض على هامش مهرجان كان، كما ظل فيلمها «أربعة نساء من مصر» فى 1997 عن نماذج مصرية من المناضلات علامة بارزة فى مشوارها. ويشهد المهرجان القومى للأفلام الروائية والتسجيلية المقبل عرض فيلم «جيران» يوم الأحد 25 أبريل بمسرح الجمهورية، حيث تتوقع الأوساط السينمائية أن يكون مسار جدل واسع ليس فقط لجرأة المخرجة فى الاقتراب من عش الدبابير، ولكن أيضا بسبب هذه الحالة من المتناقضات التى تمثلها تهانى راشد، ابنة الطبقة الارستقراطية ذات الميول اليسارية، صاحبة فيلم عن المناضلات اليساريات أو عن حرب لبنان وآخر عن النساء الفلسطينيات والمحبة فى نفس الوقت لأوباما. واستطاعت راشد، عبر ساعتين من الزمن، أن تجذب المتفرج فى فيلم توثيقى تاريخى، وفى حين تلجأ الأفلام الروائية إلى الأرشيف الوثائقى، قلبت هى الآية واستعانت بلقطات مذهلة من أرشيف السينما الروائية المصرية التى تسجل أيضا تاريخ مصر المعاصر. فى رحلة الذهاب إلى حى جاردن سيتى حيث تسكن المخرجة بعد غياب فى المهجر الكندى دام أربعين عاما وهو نفس المكان الذى اختارته ليكون موضوع فيلمها «جيران» عايشنا عن قرب ما يلاقيه سكان الحى من نتاج الجيرة مع السفارة الأمريكية، حيث تحولت «جاردن سيتى» (أو مدينة الحدائق كما يعنى اسمها) إلى ثكنة عسكرية تحيط بها المتاريس من كل جانب، يستأذن فيها السكان عند الدخول وعند الخروج، وترصد خطواتهم وتحركاتهم. وفى شرفة المنزل المطلة على السفارة مباشرة، حيث كان اللقاء مع المخرجة، ومع مارى أسعد مساعدتها وشريكتها فى صناعة الفيلم، لنتذكر سويا صوت المفكر الراحل محمود أمين العالم حين يقول للمخرجة بما عرف عنه من روح دعابة ساخرة، مشيرا إليها نحو النافذة: «لو بصيت من هنا تشوفى السفارة، ولو بصيتى قوى يضربوكى بالنار». أما أصحاب المحال التجارية فى الحى الراقى الذين قطع مصدر رزقهم بسبب الحصار الأمنى فى المنطقة، فيقول أحدهم متأسيا على حاله وحال جاردن سيتى «دى العصافير بطلت تصوصو». غير أن «جيران» لا يتناول فقط مشكلة الأمن التى صارت «تجنن العالم النهارده» كما تقول راشد بلغتها البسيطة المتدفقة، لكنه رحلة فى حى جاردن سيتى تصحبنا إليها من قضت سنوات طفولتها وصباها فى الحى الصغير قبل أن يفرض على أبيها التأميم وتهاجر مع أسرتها إلى كندا، لنتعرف على نماذج من ساكنى الحى تعكس رواياتهم تغيرات المجتمع المصرى منذ الثورة حتى اليوم، مرحلة تاريخية كاملة بإيجابياتها وسلبياتها. فهناك من فرض عليهم الحراسة (مثل حفيد فؤاد سراج الدين أو سليم صيدناوى) إضافة إلى أجانب أقاموا فى مصر وعاشوا «مصريتهم بطريقتهم» يتأسون على تبدل الأحوال اليوم وتصاعد التزمت الدينى، إلى بسطاء السكان مثل بركة الحارس الذى استفاد من مجانية التعليم وحصل أبناؤه على الشهادات العليا، ويكن الحب لعبد الناصر وعصر الثورة، أو مثقفون مثل علاء الأسوانى الذى يرفض فكرة الحنين إلى ما قبل الثورة ويعتبر جاردن سيتى مكانا ممثلا لصفوة المجتمع وليس للشعب المصرى، أو محمود العالم الذى عرف كشيوعى المعتقلات فى الخمسينيات لكنه يحتفظ بصورة ناصر فى مكتبته معلقا «أنا بحبه هو سجننى كتير لكنى بحبه». وحين نسألها عن موقعها هى من كل هذه الاتجاهات المتباينة، وهى أحد سكان الحى، خاصة مع ما قد يبدو منها من تعاطف مع من فرض عليهم الحراسة، تؤكد راشد: «الموضوع يمسنى بما إنى عشته، لكن عند عمل الفيلم تجد هناك حكاية يجب أن تروى، فى الستينيات كلنا كنا نحلم أن يتغير المجتمع، ولم نهتم بتأميم أو غيره، ولكن ما زلنا حتى اليوم نعانى والشعب لم يستفد من أى شىء، تعليم أو علاج.... الخ، أو كما يقول محمود العالم فى الشريط نفسه الناس تشرب من المجارى النهارده». لذا تؤمن راشد أنه لا مفر من إعادة النظر فى الماضى لنعرف أين نحن الآن وإلى أين نحن ذاهبون. وتشاركها الرأى مارى أسعد مضيفة: «نعطى الكلمة فى الفيلم للأرستقراطية التى لم تتح لها الفرصة للحديث، وليس مهما فى تناول عصر الثورة إذا كنا معها أم ضدها، المهم هو مراجعة السلبى والايجابى لأن هناك طبقة كاملة دفعت ثمنا وصارت فى حياتها اليومية فاقدة لأهليتها، وفى المقابل لم يحدث أى تطور فى المجتمع بل زادت المسألة تعقيدا». ومع ذلك ورغم اهتمام راشد بالسياسة، إلا أنها لم تنتم يوما لأى جماعة أو حزب «أنا شخصيتى معفرتة وصعب أسمع كلام حد»، ما يهمها فى المقام الأول كما تقول: «أحب اشوف الناس وأحب أرصد ما آل إليه الناس بعد التحولات من خلال رواياتهم نفسها، فالحياة تكمن فى تلك الحكايات».