تقف هيلدا دومانيان في القاعة الرئيسية بمتحف عنجر في شرق لبنان، تتفحص الصناديق الزجاجية التي تحتوي على أغراض أنقذها أسلافها من العرق الأرمني، من أراضيهم قبل أن يفروا إلى لبنان قبل أكثر من ثمانية عقود. ونقلت صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأمريكية في تقرير لها، عن دومانيان قولها وهي تتجه نحو أحد المعروضات: "يبدو أن هذا هو مصيرنا: التهجير القسري كل بضعة عقود". وتقول وهي تهز رأسها ببطء في استسلام للوضع: "لقد كانت إبادة الأرمن هي أول إبادة جماعية تحدث في القرن العشرين"، وذلك في إشارة إلى الإبادة الجماعية التي قامت بها الإمبراطورية العثمانية في عام 1915. وتضيف: "أما الآن، فصرنا نشهد أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين، وهي للأرمن أيضا مجددا." وكانت دومانيان تشير إلى عمليات النزوح الجماعي التي حدثت في سبتمبر الماضي، من المكان الذي يعتبره العديد من الأرمن موطن أجدادهم، وهو ما يمثل المزيد من المحو لتاريخهم. لقد ترك أكثر من مئة ألف شخص من ذوي الاصل الأرمني، منازلهم في ناجورنو كاراباخ - الجيب الجبلي الواقع داخل حدود أذربيجان المعترف بها دوليا، حيث أسسوا دولتهم التي أعلنوها من جانب واحد - خوفا من التطهير العرقي على أيدي خصومهم الأذربيجانيين. ومنذ نشأتها قبل أكثر من 30 عاما، كان لجمهورية آرتساخ (ناجورنو كاراباخ) - المعلنة من جانب واحد دون أن تعترف بها أي دولة رسميا – حكومة، وجيش دائم، وعلم. إلا أن كل ذلك انهار قبل أن تبدأ الحرب الأذربيجانية المدمرة في الشهر الماضي، حيث اضطر قادة الإقليم إلى الاستسلام وإعلان حل الجمهورية بحلول نهاية العام. وتشير صحيفة "لوس أنجليس تايمز" إلى أنه على الرغم من أن حكومة أذربيجان عرضت دمج سكان ناجورنو كاراباخ من ذوي الاصل الأرمني كمواطنين متساويين، فر أغلبهم من غير الراغبين في الموافقة على حكم أذربيجان، إلى أرمينيا ضمن قافلة لاجئين، تحركت لما يصل إلى أكثر من ستين ميلا. أما بالنسبة للملايين الذين يعيشون في أرمينيا وفي الشتات، فقد كانت خسارة ناجورنو كاراباخ والحلم الذي طال أمده ببناء دولة في الوطن الأرمني، بمثابة صفعة قوية. ويتردد صدى الصدمة بصورة شخصية في عنجر، التي ينحدر جميع سكانها تقريبا من العرق الأرمني، حيث فر أسلافهم إلى هناك قادمين من موسى داغ (المعروف أيضا ب/جبل موسى/)، وهي منطقة تقع فيما يعرف الآن بجنوب تركيا. وفي عام 1939، عندما قامت السلطات الفرنسية - التي كانت تسيطر على المنطقة بموجب انتداب ما بعد الحرب – بتسليمها إلى تركيا، واجه سكان موسى داغ خيارا مماثلا، وهو إما قبول سيطرة تركيا أو ترك المكان. وخوفا من تكرار إراقة الدماء في عام 1915، اصطحبتهم القوات الفرنسية لكي يستقروا في وادي البقاع بلبنان، على أرض تم شراؤها من أحد كبار الإقطاعيين العثمانيين. وتقول دومانيان: "لقد رفضنا العيش في ظل حكم الأتراك، لأننا كنا نعلم أنهم سيفعلون نفس الشيء كما كان الوضع من قبل". ومن ناحية أخرى، تقول مسنة تدعى إيزابيل كينديرجيان /90 عاما/، وهي طريحة الفراش ولكن متيقظة، إن ما يحدث من تعرض الأرمن لموجة جديدة من النزوح، تعيد ذكريات الألم طويل الأمد. وتضيف كينديرجيان، التي لا تزال تتذكر فترة قدومها إلى عنجر عندما كانت تبلغ من العمر ستة أعوام: "إنه نفس الشيء الذي حدث لنا. هذا ما شعرنا به في ذلك الوقت". وتوضح: "لقد أمهلونا ثمانية أيام لكي نغادر موسى داغ. أخذنا معنا كل ما استطعنا أن نحمله ونقلتنا الحافلات إلى هنا.. لم يكن هناك أي شيء سوى القليل جدا من الأشجار. لقد كنا نعيش في خيام". يشار إلى أن التوترات بين الأتراك المسلمين والأرمن المسيحيين تعود إلى أيام الإمبراطورية العثمانية، إلا أن الحرب من أجل ناجورنو كاراباخ تمتد جذورها إلى سقوط إمبراطورية أكثر حداثة، وهي الاتحاد السوفيتي. ففي عام 1988، وفي ظل المشهد السوفيتي المضطرب، اختارت الأغلبية من ذوي الأصل الأرمني في الجيب، الانفصال عن إحدى الجمهوريات السوفيتية، وهي أذربيجان، والاتحاد مع جمهورية سوفيتية أخرى، وهي أرمينيا، وهو الامر الذي أثار صراعا عرقيا مع الأذربيجانيين، شهد وقوع مذابح على الجانبين، وتشريد ما يقدر بمليون شخص، معظمهم من الأذربيجانيين. وبعد ستة أعوام، وفي الوقت الذي انهار فيه الاتحاد السوفيتي، انتصر الأرمن العرقيون، حيث طالبوا بناجورنو كاراباخ (التي يطلق عليها الأرمن اسم /آرتساخ/) والمناطق المحيطة بها، فيما اعتبرته الدول الأخرى انتهاكا للقانون الدولي.