هل استيقظ ضمير السينما الأمريكية؟!.. بدون شك هناك تحول كبير فى الآلة الهوليودية الضخمة عبر تيار جديد يقوده بعض المخرجين الذين لم يقعوا تحت تأثير حتمية خوض أمريكا حروبا من أجل إنقاذ البشرية من خطر الأسلحة النووية، وما يتطلب ذلك من غزو دول واحتلال أراضيها وتشريد الملايين من شعوبها. فطوال العقود الأخيرة جاء كثير من الأفلام الأمريكية لا تحمل سوى صور لبطولات عسكرية وتضحيات لجنود يخوضون معارك ويضحون بأنفسهم من أجل حماية المواطن الأمريكى بل البشرية كلها.. كانت الأعمال السينمائية تخرج فى صور مبهرة وجذابة، تحاول أن ترسخ فى أذهان كل الأجيال «أن أمريكا هى القوة الخارقة والمنقذ الإلهى الذى لا يخطئ»، ولكن أخيرا انتفض بعض المخرجين ليكشفوا جزءا كبيرا من السياسات والقدرات الزائفة والخادعة والمضللة، وألاعيب وشعارات المصالح الشخصية التى حكمت أهواء النظام الأمريكى فى عهد الرئيس السابق بوش الابن. وجاء فيلم «المنطقة الخضراء» للمخرج البريطانى بول جرينجراس ليكشف بصراحة غير مسبوقة قصة توريط أحد كبار جهاز المخابرات الأمريكى لمجتمعه كله فى الغزو العسكرى للعراق، وكيف أوهم صناع القرار بأن العراق يمتلك قوة نووية خطيرة يمكنها أن تهدد العالم بأسره حسبما قال له مصدره السرى القريب من رجال صدام حسين. وبدون وعى أو تفكير أو تأكيد للمعلومة دفعت أمريكا بجنودها إلى أرض العراق وفعلت ما فعلت وكأنها كانت ترفض أن تسمع أى معلومة أخرى تجعلها تتراجع عن قرارها. طرح المخرج بول جرينجراس عبر رحلة توثيقية شديدة الحبكة والصدق أسطورة الوهم الكبرى التى وقع ضحيتها مئات الجنود بين مصاب وقتيل، وهو يكشف كيف يوهم النظام الأمريكى نفسه بأنه سوف يعيش دوما داخل المنطقة الخضراء بعيدا عن المصاعب والمخاطر والأزمات التى يحيكها لدول أخرى وهو لا يدرى أنها ستطوله حتما بعدما يفيق شعبه من الغيبوبة ويكتشف سبل الخداع التى يتعرض لها نتيجة الأكاذيب التى تروجها وسائل إعلام كبرى مع سبق الإصرار إرضاء لمطامع وأهواء قادته وأحيانا بحكم الغطرسة. فعلى مر التاريخ انغمست أمريكا فى حروب ومواجهات تحت شعار مزيف «حماية العالم والشعوب» صالت وجالت ودمرت وشردت ملايين البشر، وفى النهاية تكشف الأيام أنها ستدفع الثمن مثلما حدث فى حرب فيتنام وأفغانستان والعراق. وفى محاولة جريئة أراد جرينجراس أن يعود بالتاريخ مرة أخرى إلى حرب العراق ليكشف السيناريو الحقيقى لها، ويقدم الوثيقة الضائعة التى تحكى القصة الأصلية، فالفيلم يبدأ بمهمة خاصة للرقيب روى ميللر «مات ديمون» المكلف بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل فى أرجاء مختلفة من أرض العراق عقب انتهاء الحرب وهو يحمل خرائط كاملة،وكلما يدخل أحد المواقع لا يجد بها شيئا. وهنا بدأت الشكوك تحاصره فى وجود الأسلحة النووية من أصله، فيلجأ لأحد قادة الاستخبارات الموجود داخل العراق ليفضى إليه بهذه الشكوك والذى يشاركه هذه المشاعر، ويتفق الاثنان على البحث عن المصدر السرى الذى اعتمدت عليه المخابرات الأمريكية فى قرار الحرب وهو الجنرال محمد الراوى أحد القادة السابقين فى حزب البعث. وعندما يعثر ميللر على الراوى يعرف منه الحقيقة التى كانت تطارد عقله وهى أنه الراوى أخبر الأمريكيين بأن العراق ليس به أسلحة دمار شامل وأن برامج هذا التسليح النووى قد تم وقفها عقب حرب الخليج الثانية عام 1990، وانتظر الراوى أن يبلغه ميللر بخبر عظيم، وهو أن المسئولين الأمريكيين وعدوه بحمايته ومكافأته وتتويجه فى بلده بعد الاستقرار نظير تعاونه معهم. لكنه فى الوقت نفسه يسمع عبر وسائل الإعلام بفض الجيش العراقى وتسريح جنوده،وهنا يدرك أنه تعرض لخيانة وأن أمريكا لم تف بوعدها نظير تعاونه معها.. لكن كان المهم أمام ميللر أن يأخذ الراوى ليكشف أمام القادة الحقيقة التى تم تزييفها.. وفى اللحظة الحاسمة يصوب فريد «المصرى خالد عبدالله» مسدسه ليقتل الراوى وهو يقول للضابط الأمريكى «لست صاحب القرار هنا» فى إشارة إلى أن الراوى كان تجب تصفيته على يد العراقيين أنفسهم، لأنه كان ينتمى للنظام العراقى الذى شرد المئات ودفع بهم إلى حروب وسجون ومنهم بالطبع «فريد» الذى أصيب بإعاقة ولا يجد وظيفة. كان مشهد الخلاص من الراوى رائعا ومفاجئا فى حبكته فقد هيأنا الفيلم بأن الرقيب الأمريكى سينجح فى مهمته ويأخذ دليل إدانة المخابرات الأمريكية وخديعة الجيش لكن ما شاهدناه يوحى بأن العراق نفسه هو من أخفى الحقيقة وكأنه كان يريد أن يتخلص من نظام صدام حتى ولو كانت النتيجة هى ما وصل إليه حال البلد بعد الغزو. وفى اللحظة التالية ذهب ميللر ليضع معلوماته بالحقيقة كاملة إلى كل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بكبار رجال الجيش والاستخبارات والبيت الأبيض، وأيضا لمراسلة «وال ستريت جورنال» بالعراق التى كشفت من خلاله ادعاءات الحكومة الأمريكية بوجود أسلحة دمار شامل. المخرج بول جرينجراس تعامل بذكاء شديد فى إظهار حالة التوتر والترقب داخل المشاهد الذى لم ينقطع لهثه وراء انكشاف الحقيقة.. فالكاميرا المحمولة واللقطات السريعة ساعدت كثيرا فى اهتزاز الصورة بين حالتى الصدق والكذب بحبكة سينمائية واعية وحوار صارم، وتكمن قيمة الصدمة هنا فى مدى واقعية سيناريو برايان هيلجيلاند المقتبس من كتاب «الحياة الإمبراطورية فى المدينة الزمردية» للصحفى راجيف جاندراسيكاران، وقد تجلى ذلك فى أكثر من مشهد أولا كان بين روى ميللر وأصدقائه الاستخبارات الأمريكية حينما أخبره الأول بأنه هناك حالة انقسام داخل الأجهزة العسكرية الأمريكية وما كان من الثانى إلا أن قال له «هل أنت ساذج؟».. فى إيحاء إيجابى لهذه الانقسامات التى أدت فى النهاية إلى قرار الحرب الخاطئ. المشهد الثانى عندما اجتمع قادة العراق الجدد تحت مظلة الحماية الأمريكية وبدو فى خلافات وصراعات على الكراسى دون أى اتفاق حول مصلحة العراق نفسه إيمانا بمبدأ أن الديمقراطية فوضى. وأخيرا مشهد الختام الذى ظهرت فيه براعة مات ديمون وعلى وجهه ملامح الانكسار من ضياع زملائه الضباط والزج بهم فى حرب بلهاء وأيضا فيما وصل إليه حالة التضليل الكبرى التى سادت تحكم أهواء من أرسلوه لمهمته الخاصة. عنوان «المنطقة الخضراء» حمل بين دفتيه انكسارا للقوة العظمى فى العالم وانكسارا للحلم العراقى فى الاستقرار الذى تصدعت جذوره والتى باتت من الصعب إصلاحها فى سنوات قليلة، وربما كفر به مخرجه البريطانى الجنسية عن خطايا بلده باشتراكها فى هذه الحرب والمأساة.