تاريخ أدبى طويل ذاك الذى خلفه الكاتب والفيلسوف الفرنسى من أصل تشيكى، ميلان كونديرا، بعد أن وافته المنية فى الحادى عشر من شهر يوليو الجارى فى باريس عن عمر ناهز 94 عامًا، وكان يعد واحدًا من أبرز الروائيين فى الأدب الأوروبى، واشتهر خاصة برواية «كائن لا تحتمل خفته» الصادرة عام 1984 التى صدرت لها أكثر من ترجمة إلى اللغة العربية ومنها ترجمة الباحث والمترجم اللبنانى الدكتور عفيف دمشقية تحت عنوان «خفة الكائن التى لا تحتمل» وأيضًا رواية «المزحة». واشتهر الأديب الراحل بخفته وعشقه للفلسفة؛ حيث قال ذات مرة لزميله الكاتب فيليب روث إنه يميل لتعليم القارئ أن يرى العالم كسؤال؛ وليس كسباق للفهم ومحاولة إيجاد الإجابات على كل الأسئلة وهذا ديدن البشر، وكما قال فى حياته: «يصعب سماع صوت الرواية بسبب حماقة اليقين البشرى الصاخبة». ووُلد «كونديرا» عام 1929 فى برنو، فيما كان يعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، وانضم إلى الحزب الشيوعى فى سن الثامنة عشرة، مدعومًا بإمكانيات الاشتراكية فى أعقاب الاحتلال النازى ومحرقة الهولوكوست، وقال عن تلك المرحلة بعد عقود: «لقد سحرتنى الشيوعية تمامًا مثلما أسرنى الملحن الروسى سترافينسكى والرسام الإسبانى بيكاسو والمدرسة السريالية فى الرسم»، وأضاف: «لقد وعدت الشيوعية بتحول كبير، وآمال كبيرة، وعالم جديد مختلف تمامًا، ولكن بعد ذلك استولى الشيوعيون على بلدى وبدأ عهد الإرهاب». وقد طُرد «كونديرا» من الحزب عام 1950 بسبب «الأنشطة المناهضة للحزب»، ومع ذلك انضم مرة أخرى وظل عضوًا حتى طُرد مرة أخرى عام 1970 بعد سحق «ربيع براغ» على يد القوات السوفيتية، وهو مرحلة من تاريخ الجمهورية الاشتراكية التشيكوسلوفاكية حاول خلالها الحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى أن ينهج اتجاهًا إصلاحيًا وأقرب للديمقراطية، ثم بعد خمس سنوات، غادر «كونديرا» إلى فرنسا، وأصبح فى النهاية مواطنا فرنسيا. وبلغت شهرة «كونديرا» ذروتها فى الثمانينيات من القرن الماضى، عندما كان فى أوج محاولات مواجهته للشمولية، وفى سلسلة من الروايات الخاصة به، بدءًا من «المزحة The Joke» التى كُتبت فى أوائل الستينيات ولكن لم تُنشر حتى عام 1967، وحتى أكثر أعماله شهرة «كائن لا تحتمل خفته The Unbearable Lightness of Being» التى نُشرت لأول مرة بالفرنسية عام 1984، ظهرت روح الدعابة الكئيبة الناتجة عن الصراعات والمنغصات من العيش تحت حكم الطاغية جوزيف ستالين، الديكتاتور الذى حكم الاتحاد السوفيتى لأكثر من عقدين من الزمن. ومع انحسار الحرب الباردة بدا أن موضوعات «كونديرا» وأسلوبه ينتميان إلى عصر مختلف تمامًا؛ حيث ركز العديد من النقاد على سمات أخرى، أقل إثارة للإعجاب، فى كتاباته، ولا سيما معاملته العدائية، وحتى القاسية، للشخصيات النسائية. ومع ذلك، يوجد فى قلب أعمال «كونديرا»، فى مقالاته ورواياته، مجموعة أخرى من الأفكار والانعكاسات التى تعتبر حيوية لعالم اليوم مثل: تجريده من الشمولية فى الثمانينيات من القرن الماضى، واستكشافه للعلاقة بين الثقافة والتاريخ والذاكرة والهوية، والتى تكمن أهميتها ليس فى أنها تقدم إجابات محددة للأسئلة التى نواجهها ولكن لأنها، كما هو الحال مع الكثير من أعمال «كونديرا»، مليئة بالغموض والمفارقات التى تساعد فى إلقاء الضوء بشكل أفضل على طبيعة تلك الأسئلة أنفسها. وعن طبيعة مفهوم الثقافة وتأثيرها فى وجدان الشعوب، قال «كونديرا» عبر مقال «غرب مُختطف» الذى نُشر لأول مرة عام 1983 فى المجلة الفرنسية الشهيرة «لو ديبات»: إن هوية الشعب والحضارة تنعكس وتتركز فى ما خلقه العقل فى ما يعرف باسم «الثقافة». وقال «كونديرا» خلال مؤتمر الكُتّاب التشيكيين عام 1967: إن الثقافة حيوية «لتبرير هويتنا الوطنية والحفاظ عليها»، وأكد أنه فقط من خلال حماية «اللغة والهوية» يمكن للدول الصغيرة أن تحافظ على «قيمها». واعتقد «كونديرا» أن دول أوروبا الوسطى عليها أن تحافظ ليس فقط على ثقافاتها المحددة ولكن أيضًا على ارتباطها بأوروبا، ومع ذلك، فإن «مأساة أوروبا الوسطى كانت أنها قد ابتلعها الاتحاد السوفيتى وبالتالى اختفت من خريطة الغرب، لكن هذا «الاختفاء ظل غير مرئى»، دون أن يلاحظه أحد تقريبًا؛ لأن أوروبا نفسها كانت تفقد هويتها الثقافية، وكان هناك «شعور بالوحدة الهائلة والفراغ فى الفضاء الأوروبى الذى كانت الثقافة تنسحب منه ببطء». قد يبدو هذا التاريخ مثل سرد لرؤية محافظة للغاية للثقافة والهوية مستمدة من الرومانسية الأوروبية؛ من فكرة أن كل شخص يتم تعريفه من خلال تاريخ وثقافة فريدة يجب حمايتها من التعدى الخارجى، ولكن كما هو الحال مع الكثير من تجليات «كونديرا»، لا يوجد شىء واضح تمامًا، ومع الإصرار على أن الثقافة الوطنية ضرورية «لتبرير هويتنا الوطنية والحفاظ عليها» كان «كونديرا» أيضًا معاديًا بشدة لفكرة تقيد الثقافات بالحدود الوطنية، واتخذ شعارًا للشاعر والروائى الألمانى، يوهان جوته، بأن الأدب الوطنى لم يعد يعنى الكثير اليوم، لأننا «ندخل عصر ال Weltliteratur أو الأدب العالمى، والأمر متروك لكل واحد منا لتسريع هذا التطور، وقد استنكر «كونديرا» عدم القدرة على رؤية ثقافة المرء فى السياق الأوسع واصفًا إياها ب «النظرة الإقليمية». فى الواقع، وعلى الرغم من إصراره على الحاجة إلى الحفاظ على تميز دول أوروبا الوسطى، كان «كونديرا» متشككًا فى فكرة «الوطن» أو «الهوية الوطنية»؛ حتى إنه قال فى إحدى المقابلات: «أتساءل ما إذا كانت فكرة الوطن لدينا ليست فى النهاية سوى وهمًا أو خرافة»، وأضاف: «أتساءل عما إذا كنا ضحايا لتلك الأسطورة وعما إذا كانت أفكارنا عن الجذور هى مجرد خيال نتشبث به». ويمكن أن نقول إن تصور «كونديرا» لأوروبا متناقضًا بنفس القدر؛ فهو لم يتحدث عن «أوروبا الشرقية» بل تحدث دائمًا عن «أوروبا الوسطى»، لتمييز الانقسام بشكل أكثر حدة بين الشرق والغرب، وللتأكيد على ارتباط أوروبا الوسطى بالغرب، ولتقديم روسيا على أنها غير أوروبية وأنها تشكل «مجموعة كاملة» أو «عالم آخر». جدير بالذكر أن هناك تقليدا طويلا للنظر إلى أوروبا ككيان ثقافى فريد، كوسيلة لإنكار «الأوروبية» على شعوب معينة، سواء كانوا يهودًا أو سلافًا فى الماضى وهم مجموعة عرقية هندوأوروبية يتحدثون باللغات السلافية المتنوعة ويتواجدون فى آسيا الوسطى وشرق أوروبا أو حتى المسلمين فى عالمنا اليوم، وينشر الكثير من اليمينيين اليوم فكرة أوروبا الواحدة المتجانسة لإدانة الهجرة باعتبارها تقوض «بياض القارة» وتسلب الأوروبيين «وطنهم». وقد عارض «كونديرا» تلك الرؤية إلى حد كبير فى حياته؛ حيث قال: «رؤيتى لأوروبا تتلخص فى أقصى قدر من التنوع فى أصغر رقعة من المساحة الجغرافية». وتعكس آراء «كونديرا» القضية التى تواجهنا باستمرار اليوم؛ تلك المتعلقة بمحاولة فهم العلاقة بين المحلى والعالمى، بين الخاص والعام، بين البحث عن ملجأ فى الهويات الداخلية المتجذرة، بين الميل لعدم التسامح والإقصاء وبين احتضان «الكوزموبوليتية»؛ أى اختلاط الثقافات.