كان أهم حوار أجريته، مع عبدالحليم حافظ نجم النجوم، وموضوع الحوار هو كرة القدم والرياضة، ونجومها.. حدث ذلك عام 1976 قبل رحيل عبدالحليم بأشهر قليلة، وكنت صحفيا تحت التمرين فى دار التحرير فى مجلة «الكورة والملاعب» الوليدة التى يرأس تحريرها الأستاذ الكبير حمدى النحاس الذى فوجئت به يسألنى فى الأسبوع الثانى من ممارستى العمل تحت قيادته: «تقدر تعمل حوار مع عبدالحليم عن الكورة وفريق الأهلى؟!». (كان الفنان الراحل من مشجعى ومن أعضاء النادى، ففى 25 مارس 1955 أصبح عبدالحليم حافظ عضوا عاملا فى الأهلى). بمنطق أساتذة هذا الجيل الرائد لم يكن الأستاذ حمدى يسألنى ولكنه أصدر أمرا، ووضعنى فى دائرة الاختبار. وجدت نفسى فجأة أعيش فكرة اللقاء مع عبدالحليم. هذا الفنان الذى شكل وجداننا وعلم أجيالا كيف تحب. فكانت كل أغنية يشدو بها تبدو كأنها خاصة بكل قصة حب. هل حقا سأقابل عبدالحليم الذى غنى للثورة والوطنية ويشعل فينا الحماس بصوته وبكلماته وألحانه. ولم أكن أتخيل أن هذا النجم الكبير ووقته يسمح بمنح صحفى صغير مساحة للحوار معه حول كرة القدم أو فريق الأهلى.. إلا أنه وافق على لقائى، ليمنحنى فرصة العمر فى بداية طريقى مع الصحافة.. تأخرت على موعد عبدالحليم 20 دقيقة بسبب المرور والزحام الشديد فى القاهرة (من 33 سنة)، فرفض الزميل المصور أن يصحبنى، وقال لى بالنص ما لم وما لن أنساه: «إنت فاكر نفسك رايح تقابل ممدوح سالم.. إنت رايح تقابل عبدالحليم وهو لن يسمح لك بالدخول إلى منزله»؟! ممدوح سالم كان رئيسا للوزراء.. لكنى لم أتردد فى التوجه إلى نجم النجوم وطرق بابه مهما كانت العواقب أو المغامرة.. طرقت الباب. فتحت الباب السيدة عليه.. قالت دقيقة. توجهت إلى عبدالحليم. وقفت أنتظر أمام الباب والعرق يتصبب خوفا من أن يوبخنى على تأخرى ثم يطردنى، وتكون النتيجة إهانة.. فجأة أقبل حليم وهو يرتدى جلبابه الأبيض وحافى القدمين، وبادرنى بالقول: «علية قالت لى إنك صحفى صغير. يعنى مش معقد. وممكن أقابلك كده من غير البدلة والكرافتة والرسميات.. اتفضل». ابتسمت منبهرا، لكنى أعتقد أنها كانت ابتسامة الخائف فى لحظة النجاة. سألنى حليم: «معاك كاسيت».. أجبت: نعم. أخرجت الكاسيت فلم يعمل، ووجدنى أشعر بالحرج ومرتبكا. أضع الشريط بالعكس. وأضغط على زرار الإيقاف بدلا من التشغيل. ضحك حليم ضحكته الحلوة التى تضحك معها الدنيا.. طلب إحضار جهاز تسجيل. وضع الشريط ودار الشريط والحوار.. فقد سألته عن رأيه فى الرياضة وأهميتها، وعن الأهلى، وطلبت منه أن يرى الفريق كما يرى فرقة موسيقية، وأن يضع كل لاعب فى الأهلى بموقع آلة موسيقية حسب أهميتها للفرقة.. وأذكر أنه رأى الخطيب كمنجة الكرة المصرية، ووصفه بأن دوره أساسى فى الفريق مثل تلك الآلة فى الفرقة.. وقال عن طاهر الشيخ حسب ما أذكر أنه مثل الأكورديون، وأخذ يشبه كل لاعب بآلة موسيقية.. استمر الحوار ما يقرب من ساعة ونصف الساعة.. وكان هناك شخص أظن أنه ممرض عبدالحليم، يقف خلف ظهره ويشير لى بإنهاء الحوار، فيلتفت إليه حليم قائلا: «سيبه لما يخلص كل أسئلته». شجعنى الفنان الكبير ومنحنى فرصة هائلة. وكان متواضعا معى.. وبقدر ما كنت أهيم به وبفنه شأن جيلنا كله. فقد شعرت بأنه كان يستحق بالفعل ما حصل عليه من حب ملايين المصريين. ففى تلك الفترة لم يكن سهلا استقبال النجوم الكبار للصحفيين الصغار. ومازلت أذكر يوم رحيل حليم، فقد لفنا الحزن الشديد، وبكيته كما بكته مصر كلها.. فبرحيله فقدنا الصوت الذى يعبر عنا وعن عواطفنا.. الصوت الذى يغنى للوطن ويحمسنا. كنا نراه واحدا من الأسرة. قليلون هم الذين تراهم نجوما من أسرتك. كنا نراه فى بعض الأحيان زعيما محركا للثورة وليس مجرد راوٍ لها.. والناس تبكى عواطفها يوم تموت، ويبكون زعماءهم يوم يرحلون.. رحل عبدالحليم ومازلنا نشتاق إلى أغنياته ونسمعها ونرددها.. إنه الشوق إلى الإحساس الدافئ، والكلمة واللحن والأداء البسيط، بدرجة عبقرية... إنه الشوق إلى مرحلة من العمر، اختلطت فيها البراءة بالطموح، والثورة بالجنوح، والممكن بالأحلام.. هل نشتاق إلى عبدالحليم وأغنياته التى كانت تطربنا.. أم نشتاق إلى زمن تلك الأغنيات وأجواء هذا الزمن ومعاركه.. أم ترى أننا نشتاق إلى مشاعر تلك المرحلة وتجاربها العاطفية والوطنية.. ونشتاق إلى شبابنا الذى مضى؟ ولكن فن عبدالحليم عاش كل تلك السنوات، فمازلنا نردد أغنياته، وكأننا نسمعها للمرة الأولى أو لعلها تعود بنا إلى لحظة المرة الأولى نفسها.. حتى شباب هذا الجيل يقبلون على سماع أغنياته ويشعرون بمعانيه على الرغم من اختلاف الزمن. هل كان عبدالحليم سابقا لعصره.. فعاش بفنه فى هذا العصر؟!