أحدهم من أصحاب الدم الخفيف.. أرسل يسألنى: مذيع أنت أم صحفى؟.. سياسى أم رياضى؟.. لم أفهم إذا كان سؤاله جادا، أو تفوح منه رائحة الهزل.. فى كل الأحوال أجد أن واجبى التوضيح بأن فكرة المذيع انتهت تماما منذ أكثر من ربع قرن.. فالعالم لم يعد يعرف غير الصحفى كاتبا على صفحات الجرائد.. والصحفى خلف الكاميرا.. ثم الصحفى الذى يمارس المهنة عبر الميكروفون.. أما حكاية المذيع فهى من مخلفات زمن الاشتراكية والأفكار ذات الاتجاه الواحد.. ففى هذا المناخ كان عمل الصحفى ينقسم إلى جزأين، جزء منه يمارسه صاحب الفكرة والصياغة.. والجزء الثانى – لا أقول النصف – يمارسه أحد أصحاب الوجوه البهية مع صوت مقبول أو قادر على أن يغرد.. وكلما تملكت الحرية ومناخ الديمقراطية من المجتمع يصبح الصحفى المقروء والمسموع والمرئى.. كل فى واحد.. أما الشق الثانى من السؤال حول ما إذا كنت رياضيا أو سياسيا.. فهذه ليست بدعة ولا أتفرد بها عن أساتذتى القدامى.. فقد كان أستاذ جيلى «جلال الدين الحمامصى» سياسيا وصحفيا وكاتبا مرموقا، ولعل من لا يعرفه يسأل من عرفوه عن عموده اليومى الساخن جدا «دخان فى الهواء»، وكان مصباحا من مصابيح جريدة الأخبار.. وليست مفاجأة إذا ذكرت أنه تولى رئاسة تحرير مجلة الزمالك، وكان يعشق الكتابة الرياضية.. وأستاذ الأساتذة «الصامت الصاخب» كما يحلو لى وصفه «محمود عوض»، وهو الأكبر والأكثر إبداعا بين كتاب السياسة.. هو نفسه الذى كتب «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» وكتب المسلسل الإذاعى المتفرد «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» ليجمع بين العندليب «عبدالحليم حافظ» والزعيم «عادل إمام».. وأضيف اسم الأستاذ الكبير «نجيب المستكاوى» الذى رحل حاملا لقب «عمدة النقد الرياضى».. فهو بدأ مبدعا يكتب القصة ويترجم أهم كتب الفكر والفلسفة، وله كتاب «أزمة الضمير الأوروبى» الذى قدمه عميد الأدب العربى «د.طه حسين». ولم نذهب بعيدا.. فقد كان الراحل «عبدالوهاب مطاوع» محررا بالقسم الرياضى.. بل إن رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الحالى الأستاذ «مرسى عطاالله» معروف بأنه واحد من رموز النقد الرياضى، وترأس تحرير «مجلة الزمالك».. والقائمة طويلة وتضم أسماء مرموقة قدمت بعضها.. لكنهم جميعا احترفوا مهنة البحث عن المتاعب عن علم ومارسوها بفن وإبداع.. عكس زمن «إعلام التيك أواى» الحالى الذى يتجرأ فيه كل من شاءت أقداره أن يلمع على ممارسة مهنة الصحافة.. وحمدا لله على أنهم مازالوا يحتفظون بحمرة الخجل!! فاخترعوا مسمى لجرأتهم لا أفهمه ولا أعرف مغزاه.. أولئك يقدمون أنفسهم على أنهم «الإعلامى الكبير فلان» دون أن يشرحوا لنا معنى كلمة الإعلامى.. فالعلاقات العامة إعلام.. ومندوبو الإعلان يمارسون الإعلام.. ويتقدم الجميع الصحفى – كاتبا أو مرئيا أو مسموعا – فى ممارسة الإعلام، لذا حاول أصحاب اختراع وظيفة الإعلامى تضليل الرأى العام لأنهم جمعوا بين ممارسة العلاقات العامة والإعلان والصحافة فى وقت واحد، وهذا يحمل فى طياته جريمة الإساءة لكل فرع من فروع شجرة الصحافة.. تلك قضية تستحق المناقشة، إن كنا جادين فى الفصل الواجب والضرورى بين ممارسة العلاقات العامة والإعلان والصحافة.. كما يجب أن نناقش الفصل بين العمل فى الصحافة كمهنة، والنضال السياسى تحت مظلة الصحافة أو باستخدامها كجسر عبور لامتلاك النفوذ.. ولو حدث ذلك سنعود للأصل والحقيقة.. وستعود للصحافة قيمتها وشرفها وقوتها وتواضعها وتأثيرها.. وكل هذه سمات ضاعت منذ أن أصبح «عوكل.. رئيسا للتحرير» !! ظاهرة «عوكل.. رئيسا للتحرير» صنعها الخديو الذى يؤمن بأن «الصحافة الجاهلة أسلس قيادة من الصحافة الواعية» وهو معروف بالضرورة باعتباره على حد وصف عمنا «أحمد فؤاد نجم»: «ثورى.. نورى.. شفاطنجى.. قاعد فى الصف الأمامانجى.. شيكولاتة وكراملة.. حول الله يا حول الله.. يا خسارة يا حلاوله».. هذا هو الجنرال العبقرى الذى أنتج ظاهرة «عوكل» و«الإعلامى».. وظنى أنه سيعود للخلف أكثر ليقدم «الليمبى رئيسا للتحرير».. واللى مش عارفه أقول له ده «اللى بالى بالك» ! [email protected]