كنا وقتها شباباً نتلمس الطريق في الوسط السياسي المصري، فنذهب يوماً لنستمع إلى الدكتور سعيد النجار في جمعية النداء الجديد، ويوماً آخر إلى سعد الدين إبراهيم بمقر ابن خلدون. كنا -ونحن في أوائل العشرينيات- أقرب بصورة عامة إلى التيار الليبرالي، وكان طبيعياً أن يأخذنا المسار إلى حزب الوفد. وفي ربيع عام 2003، وبالتحديد في شهر مارس، كانت الحرب على العراق هي الشغل الشاغل للناشطين بالوسط السياسي وأصحاب الرأي. أتذكر مناقشاتنا -نحن الشباب- مع أجيال مختلفة من المخضرمين في العمل السياسي والحزبي حول مغزى الحرب والآفاق التي يمكن أن تفتحها، سلباً وإيجاباً. كنا نناقش العراق وأعيننا على ما يجري في مصر. كنا نرى، بقدر لا بأس به من الطفولة السياسية الممزوجة بالأمل، المسألة كلها من زاوية التطور الديمقراطي لمنطقتنا. بالنسبة إلينا كان صدام حسين هو التجسيد الحي لواقع الشمولية والاستبداد والانحطاط الأخلاقي للقيادات السياسية والنخب الحاكمة في العالم العربي، وكان سقوط تماثيله في بغداد بعد انهيار جيشه في أيام معدودات رمزاً لإفلاس هذه القيادات وتهافت تلك النخب وفشلها في تحقيق المناعة الوطنية، إلى الحد الذي انتهى بها في الدرك الأسفل مقهورة مدحورة ومفلسة سياسياً وأخلاقيا، بعد أن زالت عنها أقنعتها العروبية والحداثية. كنا نشعر بنشوة غامضة ونحن نشير بأصابعنا لهؤلاء الأباطرة الذي يمشون عراة. لم يكن جيل المخضرمين من السياسيين والمثقفين يشاركنا هذه الروح. أتذكر أن أحدهم –وهو سياسي ليبرالي مخضرم ومتمرس من حزب الوفد- دأب على تكرار جملة واحدة ينهي بها أغلب سجالاتنا: "هذا احتلال، والاحتلال يستوجب المقاومة حتماً. ولا علاقة لما يحدث بالديمقراطية من قريب أو بعيد". كنا نرى المخضرمين مشبعين بعداء فطري للولايات المتحدة وشكوك متأصلة وراسخة في نواياها، وكانوا يرون فينا "أطفال سياسيين" نفتقر إلى التكوين الأصيل للحركة الوطنية المصرية، فضلاً عن القراءة الكلية لمسار التاريخ. كنا نراهم "إستراتيجيين" أكثر من اللازم، خصوصاً عندما يحشرون في المناقشة كلاماً عن احتواء إيران والإمبراطورية الأمريكية والبترول، وكلها أمور لم تكن تعنينا كثيراً، ذلك أن أنظارنا كانت مسلطة بالكامل على مصر لا حركة التاريخ. وكانوا يسخرون من كلامنا عن المقارنات مع اليابان وألمانيا (والذي كنا نستعيره بحماس من أطروحات سعد الدين إبراهيم – الخارج عن الإجماع الوطني وقتها)، ولم يكن أي منهم يمل تكرار العبارة- الكيليشيه: "الديمقراطية لا تفرض، والحرية لا تولد من رحم المدافع وفوهات الدبابات". *** جرت مياه كثيرة تحت الجسور. عشنا سبع سنوات صعبة، على العراق وعلى المنطقة وعلى مصر. سبع سنوات صار فيها "الأطفال السياسيون" كهولاً من هول ما رأوا وعاينوا. عرفنا أن بديل صدام ليس الديمقراطية البرلمانية التي بشر بها جون لوك، وإنما "حرب الجميع ضد الجميع" التي نبه إليها توماس هوبز. انكشف الغطاء فجأة عن إناء ملؤه العفن والأحقاد المتوارثة والأطماع الصغيرة. ضحك المخضرمون في تشفٍ ولسان حالهم يقول " شفتم؟!". أما نحن فأعدنا الحسابات وراجعنا المسلمات. كان ينقصنا بالفعل الرؤية الكلية.. وبالتحديد؛ الزاوية الحضارية. كنا نرى الأمر بصورة مغرقة في بساطتها: صراع بين مستبدين فاسدين مسكونين بجنون العظمة، متسربلين بحلل القومية والعروبة ومنافحة الإمبريالية، وبين شعوب طيبة ومغلوبة على أمرها، تتحرق شوقاً إلى الحرية والعدل. بعد سبع سنوات من التفجيرات والقتل العشوائي وانفجارات الأضرحة والقتل على الهوية وانعدام مسئولية القيادة، والانشغال بالمكاسب الشخصية الصغيرة ..بعد سبع سنوات ضاع فيها المشروع/الحلم، وانحدر وتبعثر إلى تفريعات بائسة من الزرقاوي إلى أبوغريب، ومن "الهلال الشيعي" إلى أحلام بوش المسيحية..كان علينا أن نتوقف ونراجع أحلامنا الطفولية. استحال حلمنا الليبرالي الساذج كابوساً طائفياً عنوانه الفوضى وغياب القادة من ذوي البصيرة وأولي العزم. أدركنا أن المجتمعات ليست بأفضل حالاً من طبقتها السياسية والثقافية، بعد أن دأبت هذه الطبقة على تحطيم وشائج تلك المجتمعات ودست الخلايا السرطانية في أجسادها، ففقدت مناعتها، ولم يعد يجمعها ويربطها سوى ولاءاتها الأولية: الدين والطائفة والعشيرة. عدنا إلى كلام نقله محمد حسنين هيكل عن الزعيم الهندي "نهرو" في مؤتمر باندونج عندما صارح قادة الدول الفرحين باستقلالهم ودحرهم الاستعمار بهول ما هم مقبلون عليه. وقفنا عند عبارته: "اكتشفت أن كل هندي مشكلة". عند نقطة معينة كان علينا مراجعة أفكارنا كلها: ربما صحيح أن الديمقراطية لا تُفرض من الخارج. ربما كان المشروع أكبر من أمريكا ذاتها، أو ربما أنه يندرج تحت باب "عبء الرجل الأبيض". الأخطر من ذلك أن بعضنا صار أكثر تشككاً في تقبل التربة العربية للنبتة الديمقراطية: ربما أن الديمقراطية لا تصلح معنا من الأصل. *** ما حدث في العراق مؤخراً من انتخابات برلمانية، توفر فيها الحد الأدنى من الشفافية وروح المنافسة السياسية الحرة، لم يغير كثيراً من مراجعاتنا طوال السنوات السبع الماضية، إذ لا يمكن للكهول أن يعودوا أطفالاً، خاصة بعد أن تابعواً مسيرة دامية وبائسة انتهت إلى نصف نجاح، وإلى وضع عناصر الهشاشة فيه تفوق عوامل المنعة والاستقرار. لقد أدركنا أن المشكلة المزمنة تكمن في المجتمعات لا القيادات. عرفنا أن أزمة الحكم هي انعكاس لوضع حضاري منتكس، وأن بؤس السياسة واحتكار السلطة هو أحد إفرازات هذا الوضع. أدركنا أن واقع الاحتلال زاد الأمور تعقيداً، وأعطى أعداء الديمقراطية ذرائع وحججاً لوأد أي تجربة لممارستها. ومع ذلك فإن خروج 62% ممن لهم حق الاقتراع لأداء واجبهم الانتخابي –برغم التهديد بالعنف- لهو مؤشر ينبغي التوقف عنه. وبالمثل، فإن تصريح مقتدى الصدر عن التصويت باعتباره "جهاداً" لهو مؤشر آخر. أما موقف القوى السنية من الانتخابات، حتى بعد منع "المطلك" من المشاركة (ناهيك عن موقف المطلك نفسه الداعي لمشاركة السنة) فهو مؤشر مهم على أن السياسة وقواعدها التي تقوم على الحلول الوسط والمواءمة حلت محل العنف العشوائي وتفجيرات الأسواق ومنطق "إما كل شيء أو لا شيء". ما يحدث في العراق اليوم ليس الديمقراطية كما تمنيناها لبلادنا وللعالم العربي في ذات يوم من ربيع 2003، ولكنه بالتأكيد أفضل كثيراً مما كان سيكون عليه الحال لو أن صدام استمر بالسلطة. ليقل المخضرمون "الاستراتيجيون" ما شاءوا عن التزوير والتصويت الطائفي والتدخل الإيراني، ولكن خروج 62% للتصويت في الانتخابات هو رد كاف بأن السياسة قد عادت إلى ذلك البلد... عادت بخيرها وشرها، فالديمقراطية-كما قال وينستون تشرشل- هي أسوأ نظام للحكم، ولكنها تظل أفضل من كل نظم الحكم الأخرى!. ما يحدث في العراق هو "عراقراطية" – بتعبير الجنرال باتريوس. إنه بداية مسيرة على طريق وعر، لا بديل عنه مع كل سوءاته ومخاطره. وككل الخطوات الأولى، فإن الخطوة العراقية نحو الديمقراطية بدت متعثرة ومترددة وقابلة للارتداد للوراء. وهنا فإن المعركة الأهم – أمام العراقيين وكل الديمقراطيين العرب- هي صياغة المؤسسات التي تبني المجتمعات المستقرة، وتمثل البديل الفعلي لجرثومة الشمولية التي قوضت قدرة المجتمعات على حكم نفسها وتسيير أمورها. الذي حدث في العراق ينطوي على عبر ودروس شتى، للمتشائمين والحالمين على حد سواء. نحن، الحالمين، عرفنا أن تفكيك الآلة الشمولية وإعادة بناء المجتمع ومؤسساته هو عملية بالغة الصعوبة، وغالباً ما تنزلق إلى صراعات دموية ومميتة. وبقي أن يقر المتشائمون بأن الديمقراطية يمكن أن تنبت في أرضنا!