اعتدنا الحديث عن الجسد باعتباره ثَوْبا فانيا تسكنه الروح الخالدة، والتى ما أن تنفضه عنها حتى تنطلق حُرّة فى ملكوت الله الواسع.. لتترك رداءها المادى للبلى تحت التراب ليتغذاه الدود، أو فى بطون الأسماك أو الطير الجارِح. والجسد هو رمز الشرف المَصُون والمقدَّس، وهو علامة الدنس والخطيئة. وهو أُس الشرور ومصدر البلاء يكبِّل النَفْس العُليا بمطالِبه فتزل وترتكب الخطايا التى لا يمحوها سوى التوبة التى قد تقتضى التطهر بالماء أو الدم. ولقد سجل التاريخ أحداثه الجسام على أجساد البشر حسب مواقعها من مراكز القوة والسلطة؛ حيث قام السادة فى حقبة العبودية باستعباد أجساد العبيد فاستغلوا قوتهم الجسدية فى العمل المضنى الشاق، وفى الاستغلال الجنسى لإنجاب المزيد من العبيد، أو فى حِرمان العبيد الرجال من ذكورتهم بالإخصاء ليعملوا فى خدمة الحريم دون أدنى تهديد لعِفّة النساء. وعندما أراد إقطاع العصور المظلمة تأكيد سلطته على أقنان الأرض ابتدع قانون الليلة الأولى الذى يستولى بمقتضاه الإقطاعى على جسد عروس الفلاح ليلة العرس قبل أن يبنى بها الزوج. ولم تكتفِ الرأسمالية باستغلال الجهد العضلى لعُمّالها وإنما بالقيام بتغليف بضائعها فى أغلفة من الأجساد البشرية التى تصبح هى ذاتها سلعة تُباع إلى جانب فاترينات العرض. كما مارست الثقافات الشرقية وبعض الثقافات الغربية أنواعا من التدخل الجراحى على أجساد الأطفال من الذكور والإناث لتعيد تشكيل هذه الأجساد بما يتفق والرؤية الثقافية للمجتمعات الذكورية. فليس الختان سوى بصمة جراحية يمارسها طبيب شعبى (حلاق الصحة) أو طبيب رسمى بإزالة جزء من جسد البنت والولد وذلك لتحقيق غرضين اجتماعيين متضادين؛ فممارسة الجنس هى العلاقة الوحيدة التى لا يمكن للمجتمع مراقبتها بصورة مباشرة. ولكنه يحرص على أن تكون ممارستها استمرارا وتأكيدا لكل أشكال التفاعل الاجتماعى بين الرجال والنساء والتى يتسيَّد فيها الرجال ويمارسون دور الفاعل، وتأخذ النساء دور التابع وتمارس دور المفعول. ويتصوَّر المجتمع أنه بحرمانه لنسائه من الجزء الحساس للجنس فإنه سيتيح لرجاله النجاح فى الأداء الجنسى الفاعل مع إعاقة نسائه جنسيا. • • • إذا تأمَّلنا أساليب التعبير الجسدية فى المجتمعات المُغلقة والمحافظة، فسنلاحظ أن الوقار المصطنَع يستلزم التحكُّم فى التعبير الجسدى عن مشاعر الحُزن والفَرَح. ويظهَر ذلك بوضوح فى الاحتفالات العائلية التى تتوزع فيها الأدوار بصورة غير منطقية. فأصحاب الفَرَح يستأجرون الراقصات المحترفات ليعبِّرن عن مشاعر الفرح الزائفة، بينما الفرحون بالفعل يراقبون المشهد ولا يعبِّرون عن فرحتهم الحقيقية بأنفسهم، فهم لا يرقصون فرحا. ولا تسمح الثقافات التقليدية لنسائها بحرية التعبير الجسدى عن البهجة أو السرور، وإنما هى تعيِّن نساءها «مندوبات» عن المجتمع فى حراسة أجسادهن التى لا يملكنها وإنما يملُكها المجتمع والعائلة، خاصة ذكور العائلة. ولكن «انفراجة ثقافية» تسمح للمكبوتات من النساء بالتعبير الجسدى الحُر عندما يدَّعين أن «الأسياد» تركبهن، فيندفعن أثناء حفلات الزار، التى يقيمها محترفون، بالتعبير عن جميع الانفعالات المكبوتة بصورة حادة ومُرضية. ويبرِّر الجميع لَهُنّ هذه الأفعال بأنها بغير إرادتهن العاقلة، وتحت تأثير الموسيقى الصاخبة، حيث يبدو الزار (ديسكو شعبى). وليس غريبا أن تقوم (الغازية) فى الريف المصرى بدورها الثقافى فى التعبير عما يخالِج الرجال من الرغبة فى التواصل مع امرأة أكثر تحرُّرا من الزوجات اللاتى تقمعهن الثقافة وتكبِّل أجسادهن عن التعبير الإنسانى الطبيعى بدعوى الاحتشام والمحافظة. وهنا يكمُن الدور المهم للغازية فى التعبير عن (الأنا السُفلية) المندفعة بغرائز الرجال الذين يعفيهم المجتمع من اللوم الذى تمارسه الثقافة المحافظة، فتلقيه ببساطة على عاتق (الغوازى). ويظل المجتمع محتفظا بنقائه بالشكل الذى يفضِّله الجميع. • • • الواقع أن الرقص الجماعى، الذى يستلهم الشعور الجمعى، يلعب دورا غاية فى النُبْل والرُقىّ فى التعبير عن شُموخ الجماعة وشهامة رجالها، كما نلاحظ فى (الدَبْكَة) الشامية، وفى التعبير عن جرأة ورشاقة الصيادين كما نشاهد فى (السمسمية)، وفى رقصات النوبة البديعة وبَدْو سيناء. لقد خرجَت فرقة (رضا) من قلب الضمير الشعبى لتنتج أنقى وأروع التعبيرات الشعبية الراقصة، وتعيد إنتاج جماليات الحركة الجسدية للبدوى والصياد والفلاح. وكانت فتياتها رموزا لرشاقة نسائنا الريفيات وبنات البلد، واستطاعت أن تبتكر الأغنية الشعبية التى صارَت لجمالها الصاخب جزءا من الفلكلور الخاص بالجنوب ونشيدا وطنيا يردِّده الطُلّاب فى رحلاتهم إلى المعابِد الفرعونية هى (الأقصر بلدنا بَلَد سوّاح فيها الأجانب تتفسح). لغة الجسد المصرية: قالها العبقرى صلاح جاهين (تعرفه من بين مليون إنسان). وقلتها لنفسى وأنا أندفع للَّحاق بطائرة القاهرة بمطار ميونيخ عندما رأيت رجُلَين لا تنم ملامحهما الخارجية عن كونهما مصريين. فأحدهما أشقر بعيون ملونة، والثانى يتحدَّث الألمانية مع موظفة الطيران. ووجدتنى أقول لهما بالعَرَبية: «سلام عليكم هل هذه بوابة طائرة القاهرة؟» فردّا مرحبين فى نَفَس واحد «أيوة اتفضلى معانا!!». وسألَنى أحدهما، «كيف عرفتِ أننا مصريان؟» فأجبت «من اللغة السرية التى يتحدثها المصريون فقط» وهى لغة الجسد؛ فلا شك أن ثقافة المصريين العميقة المتراكمة تاريخيا تظهر فى كل لفتة أو حَرَكة أو إيماءة لأجسادهم. فالنظرة الجادة الودودة والتكشيرة الوهمية التى (تتلكك) لتنقلب قهقهة من القلب، والنفخة والقنزحة اللتان تخفيان الخجل والحياء، قال أحدهما: «تصورى أنتِ نسخة من ابنة خالى التى تعيش فى هامبورج!» ودفع إلىّ الآخر بدعاء السفر لأرد عن نفسى خوفها.. وقلتها لنفسى لحظتها هكذا يتخيلك المصرى فى صورة أحد الأقارب لتصبح إحدى مسئولياته وليتدفق عليك بالحب الذى يعمُر به قلبه وتصبِح رحلة السعى من أجل الرزق والبقاء هينة عندما تتساند على كَتِف جماعتك المصرية.