عندما يجتمع الملوك والرؤساء العرب بعد يومين فى مدينة سرت الليبية، لبدء طقوس مؤتمر القمة السنوى، سوف تكون فى انتظارهم هدية من السماء، أو هكذا تبدو. إنه الخلاف الذى نشب منذ أسبوعين بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل حول مشروع بناء وحدات استيطانية جديدة فى القدسالشرقية الذى دانته واشنطن، والرباعية الدولية، والاتحاد الأوروبى، والأمم المتحدة ودول عديدة. اعتذر بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى بأن الأمر خطأ فى توقيت الإعلان عن المشروع، لا فى المضمون، وهو سياسة الاستيطان بشكل عام وفى القدسالشرقية بشكل خاص، قائلا إن القدس ليست مستوطنة، بل هى عاصمة إسرائيل الأبدية. وهذا يعنى أن إسرائيل لن تقبل التفاوض على جوهر الموضوع وهو احتلال القدس، وإنما على بعض التفاصيل الهامشية. الزعماء العرب ومعهم رئاسة السلطة الفلسطينية سيشعرون بسرور خفى لأنهم ألقوا بالكرة الفلسطينية فى الملعب الأمريكى بعد أن أرهقهم حملها طويلا. وهاهى إستراتيجيتهم تؤتى ثمارها فى شكل سياسة قوية للولايات المتحدة ضد مسلك إسرائيل وتعنتها، يعفيهم من الخيارات الصعبة التى تمليها عليهم حدة الموقف.. لكنهم سرعان ما سيكتشفون خطأهم، وأن لكل خطوة حساباتها. إن الاختلاف فى وجهات النظر بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل لا يفسد للود قضية، ولا حتى فى موضوع مصادرة الأراضى العربية المحتلة لبناء المستوطنات، وهو أمر لا بالجديد ولا بالخطير. فواشنطن تستطيع دائما أن تجادل إسرائيل، وأن تستعرض أمام العرب، إن رفض المستوطنات هو سياستها الثابتة منذ سبعينيات القرن الماضى، وأنها سبق وأن صوتت لتأييد قرارات ملزمة من مجلس الأمن تنص على أن المستوطنات الإسرائيلية «غير شرعية وعقبة فى طريق السلام». إلا أنها لم تعد تكرر هذا النص الصريح فى الإعلان عن سياستها بالنسبة للشرق الأوسط، واستبدلته بتعبير «الأراضى المختلف عليها». لكن تسجيل موقف بهذه القرارات على أهميته غير ضار لإسرائيل وغير مكلف للولايات المتحدة، لأنها لا تنص على إجراءات لاحقة، ولا تهدد بفرض عقوبات دولية على إسرائيل، وهى بالتالى لا تستثير اللوبى الإسرائيلى الأمريكى بشكل تخشى منه أى إدارة أمريكية. بل إن الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس الأسبق جيرالد فورد سبق وأن أعلنت عام1976 عن«إعادة تقييم» للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية بسبب تعنت إسرائيل فى مفاوضات اتفاق فض الاشتباك الثانى مع مصر، مما استدعى وقف شحنات الأسلحة إليها. وكان ذلك خطا أحمر لا تطيقه إسرائيل، فحركت اللوبى الإسرائيلى المؤثر فى واشنطن ليجبر الإدارة بأغلبية من مجلس الشيوخ على التراجع وتعويض إسرائيل عن مجرد التفكير فى فرض شروط المانح الأمريكى عليها. ورغم بيانات الإدانة والاستياء والإعراب عن شعور الإهانة الذى أعلنته الإدارة الأمريكية، فإن الرئيس أوباما سارع بنفى أن تكون هناك «أزمة» بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وأن الأصدقاء كثيرا ما يختلفون، ولكن ما بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل علاقات إستراتيجية لا تنفصم عراها. كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أصر فى نهاية المطاف على أن إسرائيل لن تتراجع عن موقفها فى الخلاف مع الولاياتالمتحدة بخصوص الاستيطان، بما فى ذلك بناء وحدات جديدة فى القدسالشرقية، قائلا: إن إسرائيل لا تبنى مستوطنات هناك، لأن القدس هى عاصمتها الأبدية. تسعى إسرائيل بذلك إلى مواجهة تراهن على أنها لن تخسرها مع الولاياتالمتحدة أولا ومع الدول العربية فى المقام الثانى. وخيارات القادة العرب بعيدا عن الخطب الحماسية وبيانات الدعم للشعب الفلسطينى والشجب لإسرائيل والمطالبات للمجتمع الدولى قليلة لأنها تنحصر فى عقد الآمال على الولاياتالمتحدة لا على مفردات القوة العربية المعطلة. وحتى لو تجمّعت لدى القادة العرب الشجاعة والإرادة للتوجه إلى مجلس الأمن الدولى وحمل الولاياتالمتحدة على التصويت على قرار جديد يدين الممارسات الإسرائيلية، ويطالب بوقف الاستيطان، فإنه لن يزيد عن إضافة قرار جديد لسلسلة قرارات سابقة اهترأت بفعل الزمن. فأى قرار فعّال لا بد أن ينص على إجراءات عقابية لإرغام إسرائيل على التنفيذ، وهو ما لا تطيقه الإدارة الأمريكية بحكم الحسابات الداخلية والانتخابية. ونظم الحكم العربية لا تجرؤ على التفكير فى ممارسة أى ضغوط على الولاياتالمتحدة حتى توفر لها ذريعة أمام الشعب الأمريكى للتشدد مع إسرائيل بحجة أن سياسة إسرائيل تهدد المصالح الأمريكية فى المنطقة. الولاياتالمتحدة تحمى النظم العربية، وتنشر القواعد والتسهيلات العسكرية، وتغزو الدول بمباركة من النظم الحاكمة، وتدير السياسات لخدمة مصالحها، وتقوم بدور الأخ الأكبر لمصلحة إسرائيل تحت ضغوط سياساتها الداخلية اليهودية. وهى فى الموقف الراهن تقدم لإسرائيل الجزرة تلو الجزرة بالتأكيد المستمر على ضمان الولاياتالمتحدة لأمنها، وخاصة ضد إيران، وتقدم للعرب فتات الخبز القديم الجاف بالإعراب عن معارضتها لسياسة التوسع الاستيطانى..والقادة العرب يشكون الظلم إلى العدالة الدولية المزيّفة ويتوسّلون التدخل. نتنياهو الذى يزور الولاياتالمتحدة هذه الأيام لحضور المؤتمر السنوى لل«إيباك» يتحدى الموقف الأمريكى ويتصرف بأسلوب من كسب المعركة ضد إدارة أوباما. وهو يدرك أن معركة نشر الاستيطان فى القدسالشرقية، رغم أنف العرب والولاياتالمتحدة والمجتمع الدولى المزعوم، هى معركة فاصلة فى تاريخ المنطقة. إنها فرصة ذهبية لاستبعاد القدس تماما وبكاملها من مفاوضات الحل النهائى مع الفلسطينيين، وهو الحل الذى لا يختلف كثيرا من المنظور الإسرائيلى عن الحل النهائى الذى وضعه هتلر لمشكلة اليهود فى أوروبا فى الحرب العالمية الثانية حل التطهير العرقى الذى طالما طالب به ساسة اليمين المتطرف. وأما الرئيس الأمريكى أوباما فيشعر بقوة إدارته بعد انتصاره فى معركة إصلاح نظام التأمين الصحى للأمريكيين ضد تكتل الجمهوريين. وهذا الانتصار قد يشجعه على خوض معارك أخرى فى المجال الخارجى ربما يكون الشرق الأوسط من بينها، وإن لم يكن على قمتها. ولكن أمام أوباما تحدياته أيضا: ما المدى الذى يستطيع أن يذهب إليه فى ردع جموح حكومة اليمين الإسرائيلى المتطرف، وما هو الثمن الذى يمكن أن يدفعه الحزب الديمقراطى المتعاطف أساسا مع إسرائيل نتيجة لذلك فى انتخابات الكونجرس فى شهر نوفمبر القادم. والسؤال الأهم: ما الذى يخشاه أوباما من العرب إذا لم تتجاوز سياسة إدارته فى شأن السلام الفلسطينى الإسرائيلى تصريحات الإدانة وجولات المفاوضات؟ قد يتوفر للرؤساء والملوك العرب من الشجاعة ما يكفى لممارسة ضغوط حقيقية لنصرة الشعب الفلسطينى وحماية مصالحهم من تغوّل إسرائيلى لا يدركون مداه الآن. ولن تنقصهم الوسائل، بدءا من سحب مبادرة السلام العربية التى تزدريها إسرائيل،إلى تجميد كل أشكال التعاون الأمنى والسياسى معها، ووقف التطبيع، والتعاون مع منظمات غربية لتطبيق مقاطعة شعبية ضد إسرائيل، إضافة إلى الضغط والتعاون مع دول الاتحاد الأوروبى لتقليص الامتيازات الممنوحة للتجارة معها. وقد يتراءى لمضيف مؤتمر القمة ملك ملوك أفريقيا أن يدعو الدول الوثيقة الصلة به إلى قطع جميع علاقاتها مع إسرائيل، مثلما فعلت موريتانيا أخيرا بإرادتها السياسية الحرة.. ومجال الضغوط واسع ومشروع لو توفرت الإرادة الحقيقية. ويبقى العبء الأكبر فى مقاومة التوسع الإسرائيلى الشرس على كاهل الفلسطينيين أنفسهم، بعد أن فرضت ظروف الاحتلال الإسرائيلى والتخاذل العربى المقاومة كخيار استراتيجى لا بديل عنه لصيانة حقوق الشعب الفلسطينى، وإرغام إسرائيل على التراجع. إن مظاهرات الاحتجاج والمواجهة التى أطلقها الفلسطينيون فى القدس والخليل ونابلس ضد تهويد المقدسات وتوسيع الاحتلال، والتى سقط فيها خمسة من الشباب قتلى بالرصاص الإسرائيلى وجرح خمسة آخرون فى قصف صاروخى على غزة لابد وأن تكون بداية لانتفاضة فلسطينية ثالثة تسقط مناورات وتنازلات السلطة الفلسطينية المتعاونة مع إسرائيل بأمل الحصول على منحة الدولة الفلسطينية المقزّمة. وسيكون من أهم تحديات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة تحييد أو إسقاط قيادات السلطة الفلسطينية المتعاونة مع إسرائيل والمدربة أمنيا لقمع المقاومة، والإبلاغ عن مخططاتها لسلطات الاحتلال. كما أنه ما من سبيل لتوحيد صفوف الشعب الفلسطينى المقسّمة بين الولاءات العربية المختلفة سوى انتفاضة مسلحة ضد الاحتلال الصهيونى الذى ينتهك المقدسات ويجهض الأمل. ولعل مثل هذه الانتفاضة لا تنتهى إلى«أوسلو» جديدة تسلب تضحيات الشعب الجسيمة لتحقيق أطماع شخصية رخيصة لتولى سلطة عرجاء باسم كفاح الشعب الفلسطينى مثلما انتهت إليه انتفاضة الحجارة التى انطلقت فى1987. من غرائب النظم العربية العاجزة ومؤتمرات زعمائها، أنها لا تملك فى مواجهة العدوان الإسرائيلى المسلح سوى المهادنة واستجداء الوسيط الأمريكى الذى أثبتت السنون أنه يغلّب المصلحة الإسرائيلية الشرسة على المصالح العربية المستسلمة. ولعل انتفاضة فلسطينية ثالثة تبعث الروح فى النظم العربية التى طال استسلامها للحلف الإسرائيلى الأمريكى، وأن تثبت من جديد قديم القول بأن السلام إنما ينبع من فوّهة المدفع.