يزخر التراث العربي بالكثير من القصص والحكايات المليئة بالحكمة والعبرة وأحيانا الفكاهة، والتي أصبحت موروثا ثقافيا في بعض بلداننا رغم اختلاف الزمن وتطور الحياة. في سلسلة "قصص من التراث" وعلى مدار شهر رمضان الكريم، تقدم لكم "الشروق" قصصا وحكايات تحمل الموروثات الثقافية للدول العربية، تتنوع بين الحكمة والعبرة والقصص الفكاهية. • جحا ومأدبة جيرانه.. من كتاب «نوادر جحا الكبرى» للروائي والمترجم المصري خليل حنا تادرس اتفق جيران جحا في أحد أيام الشتاء الباردة على أن يجعلوه يقيم لهم مأدبة، فقالوا له: "تعال نتفق على شيء، فإذا غلبتنا نأدب لك مأدبة تكون لك أو عليك". فقال لهم: ما الشرط.. قولوا لأرى هل يمكنني القيام به أم لا؟ فقالوا: قف في ساحة البلدة حتى الصباح ونقابلك في الجامع الكبير، فإذا فعلت ذلك كسبت الرهان، ويجب ألا يظهر شيئا يدل على أنك استفدت من النار، فهذا شرطنا في هذه الليلة، ولا تنس أن بيت فلان يطل على الساحة فهم يراقبونك بالمناوبة حتى الصباح. فقال جحا: لا تطيلوا في الكلام ويراقبني طابور عسكر، فلا أهتم وسوف أنفذ الشرط، وتبسم ساخرا. فقام أحدهم وهو يقول: لا تحسب نفسك بطلا وفكر في المسألة جيدًا، فالقبر وراءك وأخشى أن تموت بردًا، فإن كان لك وصية أو دين أو دراهم فقل لنا عنها، وأخبرنا كي نقوم بالوصية. فقال جحا: أنا لا يهمني، أما وقد قبلت الشرط فسأريكم كيف يكون جسمي الفولاذي وقلبي الصخري، وكم من ليلة نمتها في البراري والجبال وبين القبور، وليس في بلدنا ذئاب أو قطاع طرق، فلا شغل لي بالوصية أو سواها، وليس لدي من أخاف فراقه، وأما الدراهم فلا شيئًا منها يبيت معي. وهكذا تم الاتفاق وبات جحا تلك الليلة في الساحة حتى الصباح بكل اطمئنان، وأتى الجماعة فسألوه عما حدث له، فقال: لم أسمع سوى حفيف أوراق الشجر وهبوب العواصف، ورأيت نورا من مسافة ميل أظنه مصباحا. وعندئذ قام أحدهم وقال: لا لقد اتفقنا على أنك لا تشعل النار لأنك تدفأت تماما، ولذلك فقد أخللت بالشرط، وقام الباقون مكررين قول صاحبهم، وحكموا على جحا بأن يضيّفهم جميعًا، وقد حاول إقناعهم بالبراهين ولكنهم لم يقتنعوا ولم يسمعوا، وأخيرًا قال لهم لا بأس بالضيافة على. ودعاهم جحا للعشاء ذات ليلة، فجاؤوا منتظرين وقت الطعام ومضت ساعتان، فقالوا له: أين الطعام؟ فقد عضنا الجوع واستغنينا عن الضيافة فأتنا بما تيسر. فقال جحا: أيمكن هذا! اصبروا قليلا، وجعلهم يصبرون إلى أن تجاوزت الساعة الثالثة بعد الغروب، فقام المدعوون كلهم وطلبوا الطعام بإلحاح عظيم، فتظاهر جحا بالاهتمام وخرج كأنه يريد استحضار الطعام فصبروا، وانتظروا وجحا غائب، ثم همسوا فيما بينهم متغافرين وقال بعضهم، انظروا كيف يلعب بنا هذا الرجل المهزار قوموا نفتش عليه فنهضوا جميعًا وخرجوا إلى حديقة الدار فوجدوه وقد علق قدرًا في شجرة ووضع قنديلا على الأرض على قيد ذراع وهو واقف أمام القدر لا يتحرك. فقالوا له: هل يبلغ المزاح هذا المبلغ وتجعلنا نتضور جوعا في هذه الحال، ماذا تصنع؟ فقال جحا: إني أطبخ لكم الطعام بيدي أفلا يعجبكم!، فقالوا: لقد علقت القدر في السماء وجعلت تحته قنديلا ضئيلا، فهل يغلي هذا القدر بهذا القنديل الضئيل؟ فأجابهم جحا: ما أسرع نسيانكم فقد قلت لكم منذ ثلاث أيام أني رأيت قنديلا على مسافة ميل، فزعمتم أني تدفأت به وحكمتم عليّ، فكيف إذن يتدفأ الإنسان على قنديل من بعد ميل، ولا يغلي القدر من قنديل على بعد ذراع!.