عندما دخلت دول المنطقة على الخط تأرجحت أدوارها بشكل ملحوظ وبدا موقف بعضها مزدوجا. ضم الاتحاد السوفيتى السابق شتات الأقاليم والدويلات والجمهوريات التى كانت تدور فى فلكه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى التى تأكدت بالانتصار النسبى لموسكو فى ظل ظروف دولية وأوروبية سمحت بها نتائج الحرب العالمية الثانية. وتميز العصر الستالينى بقوة القبضة الروسية على الدول التى تنضوى تحت لواء الاتحاد السوفيتى، وأصبح من المتيقن أن هذه الدول اندمجت فيه اندماجا عضويا حتى تفكك مطلع تسعينيات القرن الماضى عندما وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، وسبق ذلك انسحاب القوات الروسية من أفغانستان فأصبح الاتحاد السوفيتى بقبضته الحديدية أضعف من ذى قبل، وخضعت وحدته المتماسكة لمحاولات متباينة بدءا من حركة التضامن فى بولندا، إضافة إلى الدور الذى باركه بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو مواطن بولندى أيضا، فضلا عن جهود الغرب متمثلة فى رؤية رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر التى جعلت تفكيك الاتحاد السوفيتى أحد أهدافها الكبرى. ونلاحظ أن تركيبة الاتحاد السوفيتى بجمهورياته المتعددة كانت من التشابك والتعقيد بحيث أصبحت شبكة النقل الجوى للجمهوريات السوفيتية المختلفة محكومة بالمرور على موسكو أو الانطلاق منها أو العودة إليها، وظل الأمر كذلك حتى بدأت سياسة ال«بيريسترويكا»، أى الإصلاح، التى تبناها جورباتشوف، ثم تلاه آخرون خرجوا من عباءة الاتحاد ليلحقوا بركب الديمقراطية والحرية الغربية كما تصوروا فانهار حائط برلين وسقطت إلى حد كبير أسطورة النفوذ الروسى المتزايد. وتبدو قيمة هذا الذى نكتبه فى أننا نحاول التعرف على الأسباب الكامنة وراء النزاع الروسى الأوكرانى، بخاصة أن قيصر موسكو الجديد ضابط استخبارات له خبرة طويلة منذ أن كان رئيسا للمحطة الروسية فى برلينالشرقية، ولقد شعر مثل كثيرين من أبناء العسكرية الروسية أن الجمهوريات السوفيتية التى انفرط عقدها هى بمثابة إهانة كبرى للدولة الأكبر وهى روسيا الاتحادية، وتراكمت فى ذهنه ذكريات القياصرة وتاريخهم العريض، خصوصا بطرس الأكبر الذى يعد بمثابة المثل الأعلى لفلاديمير بوتين. لذلك فإننى على يقين من أن دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا هو رد فعل لهذه المشاعر المكتومة والإحساس بالإهانة مما جرى للاتحاد السوفيتى وانهياره المفاجئ الذى كان من نتائجه تضاؤل مكانة روسيا بعد أن كانت إحدى القوتين العظميين لتصبح دولة أوروبية كبرى يتحدث كثر عن أنها أصبحت إحدى دول العالم الثالث، لكن بترسانة عسكرية قوية لا تزال تعطيها الزخم والقيمة فى المحافل العسكرية واللقاءات السياسية على المستوى الدولى. فى عام 2015 تمكنت قوات بوتين من ضم جزيرة القرم، وكانت حلما يداعب خيال الروس مرتبطا برغبتهم فى تأمين حدود روسيا الاتحادية وإطلالتها على البحار وإمكاناتها المكتملة لاستعادة السيطرة على مناطق أخرى، فكانت أوكرانيا هى الفضاء الإقليمى المتاح أمام موسكو والذى سالت من أجله الدماء وتناثرت الأشلاء فى مواجهة عسكرية لم يتمكن أحد الطرفين من كسب معاركها وإعلان انتصاره حتى الآن. لذلك فإننا نتوقع أن تطول فترة المواجهة العسكرية وأن تتحول هذه المعارك إلى مستنقع آسن يستنزف القدرات الروسية ويؤدى إلى إضعاف دور موسكو لسنوات مقبلة، وذلك هدف أمريكى غربى لا يخفى على أحد. ولعلنا نرصد الآن فى إطار تحليل مباشر بعض الملاحظات حول الحرب الأوكرانية الروسية وموقف الدول العربية ومنها: أولا يبدو أن توقعات الروس كانت مختلفة عما جرى بعد ذلك، فأظنهم كانوا يتوهمون أنها ستكون نزهة عسكرية سريعة يحقق فيها جيش موسكو انتصارا باهرا ويضم بعض أطراف أوكرانيا لضمان سلامة حدوده ووحدته الإقليمية، لكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن وفوجئنا بحجم مقاومة للقوات الأوكرانية جعلتها فى حال تعادل عسكرى. والملاحظ هنا أن موضوع احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف ال«ناتو» كان جزءا من التصور المقبل، ولقد استقبلت العواصم العربية أنباء القتال على الجبهة الأوكرانية الروسية بكثير من القلق والحرج فى وقت واحد، إذ إن معظمها ترتبط بموسكو وكييف، فكان الحرج من تعذر اتخاذ موقف موحد باعتبار أن التدخل الروسى من وجهة النظر الغربية وتجاوزه للحدود يجعل ما جرى بمثابة غزو خارجى لدولة مستقلة مجاورة. بينما يرى الروس على الجانب الآخر أنهم يحافظون على حدودهم الإقليمية ويقومون بعملية استباقية قبل أن تصبح قوات ال«ناتو» على حدودهم، وقد كرر بوتين أكثر من مرة أن الغرب المعادى هو الذى جاء إليه وأنه لم يذهب إليه، تدليلا على احتمالات النيات العدوانية على الأراضى الروسية بدعوى استبعاد أى عمل معاد من جانب الطرف الآخر. لقد دارت الحرب وامتدت حتى الآن لما يقرب من عام كامل وكانت المفاجأة هى الصمود الأوكرانى والمقاومة الشديدة للهجوم الروسى على نحو أظن أنه لم يكن واردا فى العقلية العسكرية الروسية عندما اتخذت قرار الحرب. وثانيا تميز رد الفعل الغربى الأوروبى والأمريكى بحزمة ضخمة من العقوبات على روسيا الاتحادية، وأظن أن ذلك كان من الأسباب المهمة للتصعيد فى المواجهة، إذ لم تكن الأوضاع السياسية والعسكرية بحاجة إلى هذا النوع من الاستفزاز الذى استقبله الروس بمزيد من التصعيد العسكرى ومواصلة القتال على كل الجبهات المشتركة. الغريب أن الدول الأوروبية والولايات المتحدةالأمريكية تسابقت جميعا فى تقديم أحدث الأسلحة وأكثر أنواع العتاد تطورا للجانب الأوكرانى، ولعب رئيس الجمهورية من كييف العاصمة ومن جولات أخرى مخاطبا البرلمانات الدولية بما فيها الكونجرس الأمريكى طالبا مزيدا من الدعم العسكرى والمعونة الاقتصادية لبلاده فى وقت جرى فيه تدمير محطات الكهرباء الأوكرانية، وعانى النازحون من المدنيين ويلات الحرب على نحو كان الأوروبيون قد نسوه. لكن الذى جرى أعاد لأذهانهم ذكريات الحرب العالمية الأولى التى بدت الظروف حاليا مشابهة لبعض فترات بدايتها منذ أكثر من 100 عام، فوقف الرئيس الأمريكى بايدن على الجانب الآخر من المحيط ليسكب مزيدا من الزيت على النار ويسعى إلى دعم التحرك الغربى الأوكرانى على حساب روسيا المنهكة بعمليات عسكرية متصلة لا يسعى أحد الطرفين إلى إنهائها. وثالثا: فمثلما تفاوتت مواقف الدول الأوروبية تجاه ذلك النزاع فالموقف البريطانى أكثر تشددا والألمانى كان يمكن أن يكون أكثر اعتدالا والفرنسى يقوم بجولات دعائية بين الطرفين، كذلك كان أيضا انقسام المجتمع الدولى فإيران داعمة لموسكو والصين تتخذ موقفا يتسم بالقبول العام لسياسة موسكو، لكنه يتحفظ نسبيا على الغزو فى هذا التوقيت بينما تلعب الهند على حبال الأزمة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية فى ظل ظروف الحرب وأزمة الطاقة. وعندما دخلت الدول العربية على الخط تأرجحت أدوارها بشكل ملحوظ، فموقف الإمارات يختلف بين دول الخليج، وموقف مصر يبدو أحيانا مزدوجا نتيجة رغبتها فى الحياد، فهو يعترض على الغزو فى مجلس الأمن ويوافق على الموقف الروسى فى الجمعية العامة، ولعلنا نشير هنا صراحة إلى صعوبة مواقف الدول عموما، وللشعور المستمر بالحرج نتيجة تعارض المصالح المتشابكة اقتصاديا مع الارتباطات المعقدة سياسيا على الجانب الآخر وأزمة الطاقة بأشكالها المختلفة إلى جانب حرب الحبوب الغذائية، إذا جاز التعبير، دور فى تزايد حدة الصراع على نحو ازدادت به إمكانات اتخاذ القرارات الواضحة بالدعم المطلق أو التأييد اللازم لأحد الجانبين. إسرائيل على سبيل المثال لديها لوبى كبير من اليهود ذوى الأصل الروسى واليهود ذوى الأصل الأوكرانى على الجانب الآخر، لذلك بدا دورها منذ البداية دورا موضعيا من دون التورط فى مواقف طويلة المدى، وتلك لعبة تجيدها تل أبيب دائما، وهى لعبة الحركة السريعة على الحبال المشدودة فى أية أزمة كبرى. ولنا أن نتساءل: أليس صحيحا أن الحرب الروسية الأوكرانية قد خطفت الأضواء من النضال الفلسطينى الباسل ضد الممارسات الإسرائيلية العنيفة حاليا؟ إن الموقف العربى من الحرب الروسية الأوكرانية حافظ إلى حد كبير على درجة من الحياد والتوازن واستخدم كارت الطاقة، خصوصا دول الخليج وفى مقدمها السعودية، لإبراز أهمية الدور العربى فى هذا النزاع الذى يحمل فى طياته أخطارا تصل إلى حد التلويح باستخدام السلاح النووى.